أحدنا قد يقرأ آية من القرآن مرات ومرات. يفهم الآية في المرة الأولى بمعنى معين، ثم يأتي أخرى ليجد الفهم عنده إما تغير أو تعمق أكثر. وهكذا الحال مع قارئ القرآن ومتدبر آياته الكريمة. ذلك أن الفهم الصحيح – كما يقول المفسرون – واستشعار معنى الآية، لا يكون إلا إن عاش المرء منا جو الآية كما عاشها الصحابة، أو الأحداث التي كانت سبباً في نزول آية أو عدة آيات.

هذه إحدى خلاصات هذا المقال ، لكن لا يمنع المتابعة لنستخلص أخريات.

لا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم كما يقول صاحب ظلال القرآن: « إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحول النصوص من كلمات وسطور إلى قوة وطاقات، وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حية، موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية في عالم الواقع وعالم الضمير.. فالقرآن ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة وكفى، إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة، ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب..».

سورة الأحزاب نموذجا

سورة الأحزاب هي من أفضل النماذج التي يمكن الحديث عنها الآن والاستشهاد بها، ونحن نعيش الأجواء التي نزلت خلالها بعض آياتها. لقد فهم وتفاعل الذي عاش الظروف في المدينة المنورة وهي محاصرة بقوى الوثنية واليهودية والصليبية، بعد أن كانت تتنزل الآيات غضة طرية، توضح الأمور وتكشف الحقائق وخفايا الأمور والنفوس، وبالتالي كان التفاعل ايجابياً، وفهم الآيات أسهل وأيسر.

نرى اليوم أحداث غزة وكأنها مشاهد مكررة لحصار الأحزاب للمدينة. فالقوى ذاتها، الوثنية والصهيونية والصليبية، التي جاءت قديماً لاستئصال الإسلام في عقر داره، هي نفسها اليوم تريد تحقيق الهدف ذاته، عبر استئصال المقاومة المسلمة في غزة. وحين نبدأ نتأمل الآيات الكريمة في سورة الأحزاب، ترانا نفهمها بشكل أكثر وضوحاً وواقعية عما كنا عليه قبل فترة من الزمن ماضية..

لنتأمل بعض آيات السورة التي تتحدث عن معركة الخندق أو الأحزاب، وندرس المشاهد الدرامية التي وقعت، مثل وقوف قوى الشر المعادية للإسلام متحدين، على رغم اختلافاتهم العقدية ومصالحهم المتنوعة، لكن جهودهم توحدت في هدف واحد هو القضاء على الإسلام، وهو نفس الهدف الذي تراه اليوم في غزة – كما أسلفنا – وقد اجتمعت قوى الشرق والغرب المعادية للإسلام الصحيح، تنشد القضاء عليه في غزة الأبية.

تكرار المشاهد

كنا نقرأ آيات السورة ونندهش ونتساءل عن بعض المشاهد ونستغربها، مثل مشاهد الذين طلبوا من رسول الله أن يأذن لهم بالانصراف إلى أهاليهم لأنهم بلا حماية ! فنتساءل: وماذا عن بقية عائلات الصحابة أو المرابطين؟ لماذا هؤلاء فقط يريدون الخروج من الرباط بقصد حماية أهاليهم وبيوتهم، كما يقول عن ذلك القرآن {ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة } (الأحزاب: 13) فتنزل الآية واضحة صريحة لتكشف كذبهم { وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } (الأحزاب : 13)

حماية البيوت كانت عذراً للهروب والفرار، كما يفعل البعض اليوم مع غزة. لا يريدون التورط في مشاكل مع الصهاينة – أو هكذا الزعم والفهم – فرفعوا بذلك أيديهم عن نصرتها، لأن بلدانهم ( بيوتهم ) بحاجة لحماية من إمكانية اعتداء الصهاينة عليها، تماماً كما سأل أولئك القوم رسول الله، لا فرق بين الفريقين.

موقف آخر للمنافقين الذين انكشف نفاقهم تماماً في تلك الأحداث، بعد أن جاء الأحزاب من كل الأطراف، وتجمعت قوى الشر في مشهد غير مألوف عند العرب، فأصابهم الهلع والقلق والجزع، فلم يكتفوا بإظهار الجزع وكفى، بل قاموا بدور أخبث من النفاق، وهو التخذيل وبث اليأس في النفوس { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } (سورة الأحزاب : 12) كما يفعل منافقو اليوم، سواء في داخل غزة أو خارجها، وترديد عبارات التخذيل والتخوين، وأنه لو لم تقم حماس بمهاجمة الصهاينة، ما كان قد حدث الذي يحدث، وغيرها من تفاهات وترهات. إنهم هم أنفسهم عبر الزمان والمكان لا يختلفون. ذات العقلية وذات النفسية المريضة.

مطلوب الفهم والتدبر

لكي نفهم بعض أحداث وتفاصيل ما يجري الآن في غزة منذ أكثر من مائة وعشرة أيام، إنما نحتاج لإعادة قراءة سورة الأحزاب من جديد، واسقاط بعض آياتها على المشاهد المتنوعة التي نراها في غزة يوميا. فالسورة التي نزلت آياتها على الصحابة الكرام وهم في ظروف لا تختلف عن ظروف غزة، إنما صالحة لكل زمان ومكان تتكرر فيها الأحداث نفسها. حصار، وتكاتف قوى الشر، وخيانات بني قريظة، وتخذيل المنافقين وغيرها من مشاهد.

فهم الصحابة الكرام يومها الآيات فور نزولها لأنهم عايشوها. واليوم يمكننا كذلك أن نفهم تلك الآيات لأننا نعيش ونرى ونسمع ما يجري في غزة على الهواء مباشرة، ولحظة بلحظة، كما لو كنا أيام حصار المدينة المنورة. فاليوم نرى المنافقين مثلاً هنا وهناك يقومون بما كان يقوم به أسلافهم في المدينة. ونرى كذلك معنى الخوف والجوع وفقدان الأمن في غزة، كما كان في المدينة. ونرى أيضاً في الوقت نفسه قلق العدو واختلاف أحزابه مع بعضهم البعض، كما اختلفت قريش مع غطفان ويهود وبقية الوثنيين. ونرى أخيراً المعنى الحقيقي للصمود والرباط والإيمان العميق بالله وحُسن التوكل عليه والأخذ بالأسباب، كما كان الصحابة الكرام يوم الخندق.

الآن يمكننا تدبر سورة الأحزاب من جديد، ونقرأ آياتها كما لو أننا وقت نزولها. اليوم، وعلى رغم أننا بعيدون عن أجواء غزة مادياً، إلا أننا نعيش هم أهلها وشعورهم وظروفهم كما لو أننا واقعياً معهم، وهذا ما يجعلنا ونحن نقرأ السورة الكريمة مرة أخرى، نتفاءل بأن سير الأحداث تجري كما يوم الأحزاب.

المشاهد هي نفسها تتكرر بصورة وأخرى، الواحد بعد الآخر، ليبقى المشهد الأخير المنتظر، مشهد هبوب الريح، ونزول السند السماوي لتفرق كلمة الأحزاب وتشتت شملهم، وينصر الله غزة نصراً عزيزاً مؤزراً مبينا. وما ذلك على الله بعزيز {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا} (الإسراء : 51) .