المجتمع الإنساني مجتمع الأخذ والعطاء والإعارة والاقتباس، والحقوق والمساواة، والمعرفة والتعارف والتواصل والتدافع، وتبادل المصالح والمنافع:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.

وقضية الفلسفة في العالم الإسلامي كانت وما زالت متأرجحة بين الأخذ والرد وبين القبول والرفض، سواء من حيث مادتها كمعرفة إنسانية وتحصيل نظري، أو من حيث منهجها كوسيلة للبحث وضبط مساره واستنتاجاته مثل المنطق نموذجا، إذ أن هذا الأخير سيوقف منه مواقف متفاوتة ، ربما كان الغالب هو تجويز العمل به وتوظيفه على نطاق واسع باعتباره معرفة إنسانية غير مرتبطة بأشخاص أو أمم معينة، ولا ضرر فيها على العقائد الدينية إذا سلمت نوايا مستخدميها كما يقول أبو حامد الغزالي: “وأما المنطقيات فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيا وإثباتا بل هو النظر في طرف الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات”[1]

ويمضي الغزالي في بيان التعامل مع قضايا الدين وخاصة في الجانب العقدي ودور المنطق في حسم الخلاف والنزاع حول قضايا تأويلية فيقول: “قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة وما إلى ذلك من التفصيل والمتنازع فيه يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم، وهي الموازين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقيم، فإن قال: خصومك يخالفونك في ذلك الميزان، فأقول: لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه، إذ لا يخالف فيه أهل التعليم لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه ولا يخالف فيه أهل المنطق لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له، ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات وبه يعرف الحق في الكلاميات…”[2]

بل إننا قد نجد ابن تيمية وهو ما عليه من رفض للمنطق والمنطقيين وتهجم عنيف على الفلاسفة ومعهم المتكلمين وكثير من الصوفية يعترف ببعض فوائد علم المنطق ولا يرى أن كل قضاياه خاطئة سواء في بداية موقفه أو بعد التراجع عنه كما يصرح بأنني: “كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئا…”[3]

 ولسنا الآن بقصد استعادة المواقف الماضية وتحليلها من حيث قبول أو رفض الفلسفة والفلاسفة ومعهم مصطلحاتهم ، ولكن عرضنا لبعض هذه التعليلات والمبررات تدخل في باب بيان أن الفكر الإسلامي قد عرف حرية  نظرية واسعة الآفاق، ومع ذلك كان يضع في حسبانه الضوابط المنهجية والمبادئ الثابتة للحليلولة دون الانجراف في مهاوي التطرف اللاعقلي، وأركز على كلمة اللاعقلي بدل العقلي، لأن العقل في حد ذاته معناه الضبط والربط والحد وسد باب الإهمال على قاعدة “اعقلها وتوكل“. أما اللاعقلي فهو كل ما يخاض فيه أو يتوهم به العقل بينما يكون أبعد عنه كل البعد وأشرد من بعير في حر الهجير!

إذ أن من مظاهر التطرف اللاعقلي رفض الاستناد إلى ما هو نصي بزعم عدم التقليد، سواء أكان هذا النص دينيا مقدسا أو كان نصا فكريا مرتبطا به تفسيرا وبيانا أو تحليلا ودراسة، لأن العقل الفلسفي المرادف للحكمة كما يزعم مفسرو الفلسفة ومتقمصوها يتطلب تحليل كل ما هو موجود ووضعه في قالب فكري ونظري له صبغة كلية يصبح بها قاعدة فلسفية تساعد على إدراك ماهية الأشياء وتحليلها في جوهرها.

ومن خلال هذا النقص أصبحت الفلسفة ذات طابع تقليدي ، على نمط تقليد المتسلف وكذلك المتمصوف غير المتبصر لبعض شيوخه المزعومين، بل هي على أسوأ صورة للتقليد الأعمى. إذ أن التزام النص الديني أو النصوص المفسرة له تقليدا سيكون أكثر دقة وبيانا وثباتا وموضوعية بالنسبة للمعتقد فيه، لأنه يرى أنه كله حق ولا يتسرب إليه الغلط أو التوهم والخرافة، ومن هنا فإن المعاني المتولدة من هذا النص هي صحيحة وصادقة رغم اختلاف أصحابها في صياغتها أو تفاوتهم في إدراكها طالما أنهم يبحرون في النص وينطلقون منه وإليه، إذ اختلاف الصيادين في حصيلة صيدهم ليس معناه أنهم خارج محيط البحر الذي يستمتعون بمعطياته!

أما التقليد الفلسفي فهو تقليد ما ليس بمقدس أو مضاف إليه، إذ التزام ما فيه شوائب الخطأ والانزلاق وتضارب الآراء بوفرة قد يصل إلى درجة التهافت كما وصفها الغزالي فيما مضى، ومن هنا فلا يحق لفلاسفة عصرنا أن يعلنوا الثورة على النص المقدس لكي يضعوا عوضه نصا ملوثا إما بوثنيات ترجع إلى عصر ما قبل الميلاد، وإما بلوثات ترجع إلى القرون الوسطى عند الأوربيين أو بلوثات ما يسمى بعصر الأنوار توهما وما تلاه من أيديولوجيات نظرية وإقليمية أفرغت الفلسفة من محتواها الرئيسي وهو طلب الحقيقة والنظر بحكمة إلى الأشياء سواء من حيث تحديد ماهيتها أو صياغة وظائفها في مجال السلوك الفردي أو الاجتماعي على حد سواء.

فالتقليد النظري والمنهجي عند الفلاسفة يكاد يتطابق بين الماضي والحاضر، بحسب الأبعاد والغايات المتوخاة منها، إذ الفلسفة منذ القدم كما يقول جميل صليبا، لها غايتان هما:

1 – إدراك أسرار الوجود

2- تنظيم سلوك الإنسان في الحياة

فالمسألة الأولى نظرية والثانية عملية، وإنك لتجد هاتين المسألتين في آثار الحكماء السبعة (القرن السابع ق.م) وتجدهما في آثار الطبيعيين والفيثاغوريين وتجدهما في فلسفة سقراط الذي قال فيه شيشروت أنه أنزل الفلسفة “من السماء إلى الأرض” أي وجه الأنظار إلى البحث في المسائل الخلقية، وتجدهما في فلسفة أفلاطون وأرسطو والأبيقوريين والرواقيين، حتى إن الفلسفة الأفلاطونية الجديدة لم تخل منهما، وكذلك فلسفة العرب، وفلسفة القرون الوسطى والفلسفة الحديثة، وممن ذهب إلى ذلك أيضا (كانت 1724-1804) الذي جعل همه البحث في هاتين المسألتين: ماذا يمكننا أن نعمل؟ وماذا يجب أن نعمل؟ فالمسألة الأولى نظرية تأملية أما الثانية فعملية.

وتدور مباحث الفلاسفة في أيامنا حول هاتين المسألتين الأساسيتين: المسألة الأولى انتقادية تحدد فيها قيمة العلم، والمسألة الثانية خلقية تبين فيها قيمة القواعد التي يجب أن يسير عليها الإنسان في حياته[4].

إذن فالفلسفة الحديثة من هذه المقارنة المبدئية هي ذات حلة تقليدية وانتقادية متناقضة (لأن التقليد يتنافى مع الانتقاد) تعود بفكر الإنسان إلى ما قبل الميلاد إن لم نقل إلى ما قبل التاريخ ،ومع ذلك نجد المتعاطين لها عندنا وفي عصرنا ينظرون إلى نصوصها نظرة شبه تقديس بل يدافعون عنها بأقصى ما لديهم من طاقة فكرية بطالة ،رغم أن تلك النصوص كما قلنا غير مقدسة ولا هي علمية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إلا أن هاجس مصطلح الفلسفة وضخامته في النفوس المريضة جعل التشبث بها عند هؤلاء لهذا المستوى على سبيل المجاراة والمداراة وعلى سبيل التبعية والاستلاب!

ولقد كان مفكرونا وفلاسفتنا في الماضي أكثر وعيا بما هو كائن وبما ينبغي أن يكون، بحيث لا فرق عندهم بين المسألتين في ميزان العقل السليم والمصون وإنما حيثما وجدت الحكمة فتلك ضالتهم، كما نجد هذا التعبير الجميل لأبي حامد الغزالي يحدد فيه طرق الأخذ أو الرد من أقوال الفلاسفة وكتاباتهم:

ولقد اعترض علي بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل، مع أن بعضها من مولدات الخواطر، ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر وبعضها يوجد في الكتب الشرعية، وأكثرها موجود معناها في كتب الصوفية. وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم فإذا كان ذلك الكلام معقولا في نفسه مؤيدا بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة فلم ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل للزمنا أن نهجر كثيرا من الحق ولزمنا أن نهجر جملة آيات من آيات الله، وأخبار الرسول وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية، لأن صاحب كتاب “إخوان الصفاء” أوردها في كتابه مستشهدا بها ومستدرجا قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله، ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه في كتبهم، وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي الغمر فلا يعاف العسل وإن وجده في محجمة الحجام[5].

فالأخذ أو الرد ينبغي أن يكون مؤسسا على مقاييس علمية موضوعية ، الغاية منها هو تحصيل الحق والاستنتاج السليم اللائق بمفهوم العلم ووظيفته الاستكشافية، ولهذا فسواء كان التقليد لما قبل النص أو للنص أو لما بعده فالأمر سيان إذا كان الهدف هو طلب الحق، ومن هنا فالفيلسوف ينبغي له أن لا يتعارض مع مقتضيات الدين الصحيح، كما أن المتدين ليس من إنصافه أن يرفض آراء الفيلسوف إن كانت سليمة وصحيحة، ومن ثم فالفلسفة لا تعني محاربة الدين، أو أن الفيلسوف ينبغي أن لا يكون متدينا حتى ينعت بالفكر والعبقرية النظرية، بل عل العكس من ذلك فإن تدينه بدين الحق هو تعبير عن صدق فلسفته وموافقته للصواب، لأن هذا التدين قد يدخل في مقتضيات نظره السليم وكيسه كما يقول النبي : “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة ” الحديث.

ولهذا فكان لا بد على كل فيلسوف أن يبحث عن الدين الحق الذي يضمن له الامتداد في فلسفته وتطويرها بدل أن ينزلق في بطالة فكرية، فيصبح حينئذ لا هو فيلسوف متحرر ولا متدين مقلد ومسدد، وإنما تقليده يكون مؤسسا على الاتباع الخروفي (نسبة إلى منطق القطيع) مما يترتب عنه التفكير الخرافي و الجزافي والانحرافي، وهو الشيء الذي حذر منه المفكرون المسلمون سواء منهم القابل للفلسفة أو الراد لها فيما مضى، بل الأدهى من هذا هو اللجوء إلى نطح المنتج له والراعي لمصلحته .وحينها فلا يستطيع أن يتخلص من تقليده الأعمى للفلاسفة اليونان وغيرهم، وأيضا في تبعيته الخروفية للفلاسفة الغربيين المحدثين من وجوديين وعدميين وعبثيين وتشاؤميين ووضعيين وشيوعيين ورأسماليين، وجدليين ماديين وفرويديين وسلوكيين…إلخ. مما أصبح اصطلاحهم مودة العصر وطراز الخطاب المستهلك في ساحة الإعلام الثقافي والأيديولوجي والخبط والخلط بين العلمي والسياسي والواقعي والطوباوي الوهمي وما إلى ذلك.

هذا النكوص الفكري هو الذي جر الفلسفة والنظر المعاصر إلى تكريس العنصرية بأجلى مظاهرها واستكبارها وبالتالي بناءها على الميثولوجيا والأسطورة ونظرية الغول والوحش المخيف، والدم الآري والأزرق الملوكي والأسود والسامي الدوني، والسادي المعتدي والنرجسي وحدث ولا تبالي من متلازمات و أساطير أوديب وإلكترا …فنتج عن هذا الرأسمالية والنازية والشيوعية والوجودية والنفعية والعبثية وغيرها مما تهدد معها  بقاء البشرية واستمراريتها؟ فهل من مراجعة لكبح الأساطير والعودة بالفكر الإنساني إلى ساحة الحق ومركز الإدارة والتغيير؟…


[1]  الغزالي: المنقذ من الضلال، ص 26.

[2]  الغزالي: المنقذ من الضلال.

[3]  ابن تيمية: الرد على المنطقيين، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت ص 3.

[4]  جميل صليبا، علم النفس – دار الكتاب اللبناني، ط 3 – 1972. ص 32.

[5]  الغزالي: المنقذ من الضلال، ص 31.