مما يسلي أهل المصائب أن المصاب إذا صبر واحتسب وركن إلى كريم، رجاء أن يخلف الله تعالى عليه، ويعوضه عن مصابه، فإن الله تعالى لا يخيبه بل يعوضه، فإنه من كل شيء عوض إلا الله تعالى فما منه عوض كما قيل.

من كل شيءٍ إذا ضيعته عوضٌ وما من الله إن ضيعته عوضُ

بل يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدثه له، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت لك سخطاً وكفراً كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت لك جزعاً وتفريطاً في ترك واجب أو فعل محرم كنت في ديوان المفرطين، وإن أحدثت لك شكايةً وعدم صبر ورضى كنت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت لك اعتراضاً عليه وقدحًا في حكمته ومجادلة في الأقدار، فقد قرعت باب الزندقة، وفتح لك وولجته، فأحذر عذاب الله يحّل بك، فإنه لمن خالفه بالمرصاد.

وإن أحدثت لك صبراً وثباتاً لله كنت في ديوان الصابرين، وإن أحدثت لك رضى بالله ورضى عن الله وفرحاً بقضائه كنت في ديوان الراضين، وإن أحدثت لك حمداً وشكراً كنت في ديوان الشاكرين الحامدين، وإن أحدثت لك محبة واشتياقاً إلى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين (1).

عن النبي قال: “إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط. فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبه.

وقال قتادة: قال لقمان وقد سأله رجل: أي شيء خيراً؟ قال: صبرٌ لا يتبعه أذى، قال: بأي الناس خيراً؟ قال: الذي يرضى بما أوتي، قال: فأي الناس أعلم؟ قال: الذي يأخذ من علم الناس إلى علمه، قيل: فما خير الكنز من المال أو من العلم؟ قال: سبحان الله، بل المؤمن العالم الذي ابتغى عنده خيراً وجد، وإن لم يكن عنده كف نفسه، وبحسب المؤمن أن يكف نفسه (2). وكان الصالحون يفرحون بالشدة لما يرجون من ثوابها (3).

والشكر لله جل وعلا شكرٌ باللسان وبالعمل وأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج المطر (4).

يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه، ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء، فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان، يرى أن له حقاً في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله. أما سمعت قصة يعقوب -عليه السلام-: بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير.

فإياك أخي أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء (5).

عزى ابن السماك رجلاً فقال: عليك بالصبر فإنه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع (6).

ومن المصائب استطالة الناس وتعرضهم وكثرة قيلهم وقالهم .. استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل: مه، فقال أبو معاوية: دعه يتشفى ثم قال: اللهم اغفر الذنب الذي سلطت عليّ به هذا.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات(7).

اشتكى ابن أخي الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد (8).

قال الفضيل: إذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه (9).

واعلم أخي: أن الزمان لا يثبت على حال كما قال -عزّ وجل- {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي، فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال وهو تقوى الله (10).

ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في المصائب المختصة بذات الإنسان .. قال: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارة بالجزع والشكوى، وتارة بالتداوي إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلى الصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها،و عنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في ذمته ظلامة لا يخطر له تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواها، وربما أفاق وأوصى بجور (11).

فينبغي للمتيقظ أن لا يتأسف على ما فات، وأن يتأهب في حال الصحة قبل هجوم المرض، فربما ضاق الوقت عن عمل واستدراك فارط، أو وصية، فإن لم تكن له وصية في صحته فليبادر في مرضه، وليحذر الجور في وصيته، فإنه من المحرمات، فإنه يمنع المستحق ويعطي من لا يستحق، فيحتاج أن يحارب نفسه وشيطانه، وليعلم أن هذا الواقع من المصائب في نفسه وماله وولده، وقع برضى مالكه وخالقه، فيجب على العبد أن يرضى بما يرضى به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت، ويقول لها: أما علمت أن هذا لا بد منه، فما وجه الجزع، وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء.

وعن أبي محمد الحريري قال: حضرتُ عند الجنيد قبل وفاته بساعتين، فلم يزل تالياً وساجداً، فقلت له: يا أبا القاسم قد بلغ ما أرى من الجهد، فقال: يا أبا محمد، أحوج ما كنت إليه هذه الساعة، فلم يزل كذلك حتى فارق الدنيا (12). لم يجزع على الدنيا إلا بقدر فوات العمر بدون طاعة. فإن دنا حباً للدنيا أشدنا جزعاً عند المصيبة.

وقال إسماعيل بن عمرو: دخلنا على ورقاء بن عمر وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله -عزّ وجل- وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه، فيرد عليهم السلام، فلما كثروا عليه أقبل على ابنه فقال: يا بُني، اكفني رد السلام على هؤلاء لا يشغلوني عن ذكر ربي -عزّ وجل- (13).

وقال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يُهوَّنَ علي في سكرات الموت فإنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم (14).

قال إبراهيم بن داود: قال بعض الحكماء: إن لله عباداً يستقبلون المصائب بالبشر.

قال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم (15).

ينبغي للمصاب بنفسه أو بولده أو بغيرهما، أن يجعل في المرض مكان الأنين ذكر الله -تعالى- والاستغفار والتعبد، فإن السلف -رحمهم الله تعالى – كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق، سأل رجل أبابكر بن عبدالله فقال: ما تمام النعمة؟ قال: أن تضع رجلاً على الصراط ورجلاً في الجنة (16).

قال الحسن: وذكر الوجع .. أما والله ما هو بشر أيام المسلم أيام نورت له فيها مراحله، وذكر فيها ما نسي من معاده، وكفر بها عنه خطاياه (17).

قال أبو مسعود البلخي: من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً أو ضرب سدراً فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه -عزّ وجل- (18).

إن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيراً من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين .. فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) وهي وإن كان فيها راحة إلا إنها تدل على ضعف وخور، والصبر عنها دليل قوة وعز، وهى إشاعة سر الله -تعالى- عند العبد، وهى تؤثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء.

لا تشكون إلى صديق حالة تأتيك في السراء والضراء فلرحمة المتوجعين مرارةٌ في القلب مثل شماتة الأعداء (19)

قال عون بن أبي جحيفة الكوفي: الإنسان إن سقم ندم، وإن صح أمن، وإن استغنى فتن، وإن افتقر حزن (20).

وعندما سئل الأحنف بن قيس: ما الحلم؟ قال أن تصبر على ما تكره قليلاً (21).

وصدق والله فهو وقت قليل ثم يزول .. سحابة صيف وتنقشع ولو تأملت ما جرى لك من المصائب والآفات لرأيت كيف طواها النسيان، فإن احتسبتها فقد بقيت لك حسناتها وأجر صبرها، وإلا فقد سليت كما تسلو البهائم.