تواردت الأديان السماوية كلها على الإعلاء من الإنسان الخليفة المكرم بتكريم الله له من بين باقي المخلوقات الأرضية، فجاءت النصوص تترى في حياطة هذه الكرامة من الهدر، وحماية هذه الحياة من الإزهاق، وكان للإسلام القدح المعلى – الحظ الأوفر – في صيانة الحياة الإنسانية ومراعاة حق الحياة للإنسان من التعدي أو التفويت، فلا مالك للروح إلا خالقها، ولا آخذ لها إلا معطيها، وكل ذلك بأجل مسمى، ومقدار معلوم، وكتاب سابق: { قُلۡ ‌يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ } (السجدة: 11).

ولأجل ما سبق وتسويرا لما سلف تتالت التشريعات الشريفة في هذا، وجاء النكير والوعيد الشديد على التعدي على حرمات الأنفس والأبدان، فقد حرمت الشريعة القتل العمد وجعلته من الموبقات، وسدّت مسالك القتل الخطأ وشبه العمد بتدابير أخلاقية كالتثبت، والتحذير من الغضب والتسرع، ومنع حمل السلاح في التجمعات العامة، وحرّجت في القتل الخطأ بتغليظ كفارته من دفع الدية وتحرير رقبة مؤمنة كاستحياء رمزي للمقتول، أو الصيام شهرين متتابعين حال العجز عن العتق، كما هي الآيات المحكمات في سورة النساء، فلم يكن هناك جرم أعظم بعد الشرك بالله تعالى من قتل النفس بغير حق: {وَمَن ‌يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (النساء: 93)، فالقتل بغير حق من الموبقات والنهي عنها من الوصايا التالدة: {وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ ‌وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (الأنعام: 151).

ولأجل ذلك استقر الفقه الإسلامي على أن الأصل في الأنفس هو العصمة سواء بالدين للمسلمين، أو بالعهد والأمان لغير المحاربين، ولا يستثني من ذلك إلا من وجب في حقه حد أو قصاص من قتل أو جروح. كما يستثنى من هذا الأصل المحاربون المعتدون الذين يتوجب ردهم وقتالهم إلى غاية كف ظلمهم وعدوانهم كما قال تعالى: {وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ ‌يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (البقرة، 190).

وشددت السنة النبوية على وجوب حفظ الأنفس قدر الطاقة، ففي حالة تعارض إتمام العبادات بشروطها وأركانها مع سلامة البدن، وجب التنزّل إلى الرخص حياطة للأنفس، فعن جابر قال: “خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون ‌لي ‌رخصة ‌في ‌التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر – أو يعصب” (أبو داود، 336)

ظلت المحافظة على الحياة قسطاسا يزن الحياة الطبية والتدبير الفقهي في الإسلام، فالدين يتشوف إلى الحفاظ على الأنفس، وللفقه الإسلامي في مراعاة هذا الحق روائع، بل غرائب وعجائب في مشتبكات الأحوال، ومحرجات الأمور  وفي أهوال الحرب وأوقات الطواعين والأوبئة، وهي مما ناقشه الفقهاء في تعارض المفاسد، أو تعارض المصالح، فضلا عن تعارض المصالح والمفاسد، كما  أشار إليه القواعدي الكبير الإمام ابن نجيم في الأشباه والنظائر تحت قاعدة: (إذا تعارض مفسدتان، روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما)، وعن هذه القاعدة خرّج الفقهاء بعض الصور التي انحازوا فيها لحق الحياة المتيقنة على غيرها، ومن تلك الصور ما يأتي ولاء:

أ- تساوي الذمم والعصم: ومن ذلك عدم افتداء النفس بقتل آخر، كمن أكره على قتل غيره لافتداء نفسه، فيحرم عليه ذلك، ويصبر على البلاء النازل، ويحتسب الأجر، لأن الذمم متساوية، كما جاء في الحديث ” المؤمنون ‌تكافأ ‌دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم” (أبو داود، 4530).

ب- مسائل الأجنة: كمسألة اعتراض الجنين في بطن أمه عند الولادة، ولم يمكن إخراجه إلا بتقطيعه، وإلا ماتت أمّه، فقد اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من منع ذلك ما دام الولد حيا، لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع.

وكذا منع الفقهاء إجهاض الجنين بعد نفخ الروح إلا في حال الضرورة، قال الدكتور ممتاز حيزة: “الضرورة هنا تتجلى في صورة واحدة، وهي: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الأمّ؛ لأن الأمّ هي الأصل في حياة الجنين، والجنين فرع، فلا يضحّى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه ــ مع الشرع ــ الخلق، والطب، والقانون.

على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية على الحي بحال، ففي كتب الحنفية (امرأة حامل اعترض الولد في بطنها، ولا يمكن إخراجه إلا بقطعه أرباعًا، ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمّه من الموت .. قالوا: إن كان الولد ميتًا، فلا بأس به، وإن كان حيًّا، لا يجوز؛ لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع. اهـ. (كتاب البحث العلمي الطبي وضوابطه الشرعية، ص 958)

ج- مسائل اضطراب البحر: فإذا خشي على السفينة الغرق، واضطرار الناس إلى تخفيف حملها، فلا يجوز رمي البشر بحال، ولو كانوا عبيدا، أو وجبت في حقهم حدود، وهو ما قاله العز بن عبد السلام: “ولتساوي المفاسد أمثلة – ومنها إذا ‌اغتلم ‌البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة، لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم لوجب إلقاء المال ثم الحيوان المحترم. لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس”. (قواعد الأحكام، ج 1 ص 96).

وهو ما قاله الرملي أيضا”: ينبغي أن يراعى في الإلقاء تقديم الأخس فالأخس قيمة من المتاع والحيوان، إن أمكن؛ حفظًا للمال حسب الإمكان، لا عبيد لأحرار. (نهاية لمحتاج، ج 7 ص 367).

وربما يحتج بعضهم بفعل نبي الله يونس عليه السلام، وهو ما أجاب عليه ابن العربي:” الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز، فكيف المسلم؟ وإنما كان ذلك في يونس وفي زمانه مقدمة لتحقيق برهانه وزيادة في إيمانه، فإنه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار والبحر؛ وإنما تجري عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته، فإن قيل: إنما رمي في البحر، لأن السفينة وقفت وأشرفت على الهلاك، فقالوا: هذا من حادث فينا فانظروا من بينكم فلم يتعين، فسلطوا عليه مسبار الإشكال وهي القرعة، فلما خرجوا بالقرعة إليه مرة بعد أخرى علم أنه لا بد من رميهم له، فرمى هو بنفسه، وأيقن أنه بلاء من ربه ورجا حسن العاقبة، ولهذا ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم ‌فاضطروا ‌إلى ‌تخفيف ‌السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفا. وهذا فاسد، فإنها لا تخف برمي بعض الرجال، وإنما ذلك في الأموال، وإنما يصبرون على قضاء الله” (أحكام القرآن، ج 4 ص 38).

د- مسائل السبق إلى التطبيب والتداوي: وهو ما درسه الفقهاء في قاعدة التزاحم على الحقوق، والتي لج السؤال عنها أيام جائحة كورونا، حيث دعا البعض إلى تطبيق نوازل الحروب من تطبيب من ترجى حياته أو نفعه دون غيره، مما لا يوافق عليه الفقهاء لتكافؤ الذمم، وعندهم أن هذا من قبيل ملك الانتفاع، لا المنفعة، وهذا يندرج تحت قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان،  فمن  سبق إلى المشفى، واستحق الانتفاع بجهاز الإنعاش، فالأصل أنه لا يجوز نزعه عنه ما دام لا يستطيع الاستغناء عنه، ولو كان الغرض من نزعه تركيبه لغيره ممن هو أشد حاجة إليه، وقد اختلف فيها، والراجح عدم نقل الأجهزة عن الأول، لأن في رفعها ارتكابا للمحظور، باعتبار السبق، ودفعا للمرجحات المشكوك فيها، ولا يستثنى من ذلك إلا إذا جزم الأطباء بتعطل كل الوظائف، لكونه يصير في حكم الميت، فتنزع وتركب لمن يليه.

وأما في حالة عدم السبق ووصول الجميع، فيمكن النظر والاجتهاد والتحري، أو الاعتماد على القرعة، لأنها السبيل الأمثل لدفع كل المرجحات المشبوهة من الرشا أو بذل النفوذ والمال. فالقرعة تزيل الآثار السيئة للاختيار بالتشهّي، وتقطع علائق النفوس، وترفع الخصومة،  كما أن للنظر الطبي واسع الأمر في الحالات الحرجة في تقديم الأولويات، كما جاء في فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: “على الأطباء المسلمين الالتزام بالنظم واللوائح الطبية في المشافي التي يعملون بها، فإن وُكِل الأمر إليهم، عليهم أن يحكّموا المعايير الطبيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، ولا يجوز نزع الأجهزة عن مريض يعالج بها لصالح مريض جاء بعده، أمّا إذا كان الطبيب حائرًا بين مريضين، بحيث لم يَعد له مجال إلا لاختيار أحدهما، فيُقدّم الأسبق، إلّا إن كان ميؤوسًا من شفائه، ومن يحتاج إلى الإسعاف الطبي العاجل على من تسمح حالته بالتأخر، ومن يُرجى شفاؤه على من لا يُرجى؛ وذلك بغلبة الظن، والتقدير الطبي”. (الفتوى رقم 30/18).

هذه بعض الصور الفقهية التي نحا فيها فقهاء الإسلام إلى حماية الحق في الحياة، وتقديم الأولويات في تعارض المفاسد والمصالح، أو المصالح فيما بينها، وهي مبينة عن سبق حقوقي كبير تفخر به المدونة الإسلامية، وهو سبق لم يعرفه العالم إلا اليوم، وإن كان تنزيله منقوصا ومخدوشا نتيجة غياب الأخلاق من الحياة العامة.