منذ أربعة عشر قرناً من الزمن ، يثبت القرآن الكريم أنه الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكل سورة من سور وآيات القرآن الكريم لها أسرار وعجائب، فمنها ما فيه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، ونجاة لمن اعتصم به واهتدى بهداه من الكفر والضلال والعذاب الأليم، واختصت قصار سور القرآن الكريم ببعض العجائب والأسرار، التي امتلأت بها كثير من الكتب التي حملت عنوان مجاز القرآن أو مجازاته وغريب القرآن أو غرائبه ومتشابه القرآن ، وكذلك كتب التفسير على اختلافها وتعددها ، ومنها تفسير “مفاتيح الغيْب” للإمام فخر الدين الرازي الذي ختمه بعدد من غرائب القرآن وعجائبه، أثناء حديثه عن قصار السوَر، وعلاقتها ببعضها، وننقِل هنا بعض ما قاله –رحمه الله:

 قال عن سورة الكوثر: اعلم أنَّ هذه السورة كالمُتمِّمَة لِمَا قبلها من السوَر، وكالأصل لِمَا بعدها. أمَّا الأول فلأنّه –تعالى- جعلَ سورة الضحى في مدح النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، ثمَّ ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾.

وفي سورة الشرح “ألم نشرح” شَرَّفه بثلاثة أشياء: شَرْح الصدر، ووضْع الوِزْر، ورفْع الذِّكْر. ثمَّ شَرَّفه في سورة التين بثلاثة أنواع من التشريف: أقسَمَ ببلده، وأخبر بخلاص أُمَّتهِ من النار بقوله ﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. ووصولهم إلى الثواب بقوله ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.

وشرَّفه في سورة العلق بثلاثة أنواع: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وقَهَر خصمه بقوله ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة﴾، وتخصيصه بالقرب في قوله ﴿واسجد وَاقْتَرِب﴾. وشرَّفه في سورة القدر بليلة القدر، وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيراً من ألف شهر، وتنزّل الملائكة والروح فيها، وكونها سلاماً حتى مطلع الفجر. وشرَّفه في “البيّنة” بالثناء على أُمته، بثلاث: أنهم خير البريّة، وجزاؤهم جنّات، ورضيَ عنهم.

وشرَّفه في سورة الزلزلة بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أُمته، ورؤيتهم أعمالهم، ووصولهم إلى ثوابها حتى وزْن الذرة. وشرَّفه في “العاديات” بإقسامهِ بخيل الغزاة مِن أُمَّته، ووصفها بثلاث صفات. وشرَّفه في “القارعة” بثقل موازين أُمّته، وأنهم في عيشةٍ راضية، ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية.

وفي سورة التكاثر هدَّد المُعرِضين عن دِينه بثلاثة: يرونَ الجحيم، ثمَّ يرونها عينَ اليقين، ويُسألون عن النعيم.

وشرَّفه في سورة العصر” بمدح أُمتهِ بثلاثة: الإيمان، والعمل الصالح، وإرشاد الخلق إليه، وهو: التواصي بالحق والصبر. وشرَّفه في سورة الهمزة بوعيد عدوِّهِ بثلاثة أنواع من العذاب: ألاَّ ينتفع بدنياه، ويُنبَذ في الحُطَمَة، ويُغلَق عليه. وشرَّفه في سورة الفيل” أنْ ردَّ كيد عدوِّه بثلاث: بأنْ جعله في تضليل، وأرسلَ عليهم طيراً أبابيل، وجعلهم كعصفٍ مأكول.

وشرَّفه في سورة قريش بأنْ راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه: تآلف قومه، وإطعامهم، وأمْنِهم. وشرَّفه في سورة الماعون بذمّ عدوِّه بثلاث: الدناءة، واللؤم؛ في قوله { فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وترك تعظيم الخالق في قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ.الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} وترك انتفاع الخلْق في قوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .

فلمَّا شرَّفه في هذه السوَر بهذه الوجوه العظيمة، قال {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أيْ: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور، التي كل واحدة منها أعظم من مُلْك الدنيا بحذافيرها، فاشتغِلْ أنتَ بعبادة ربِّك، إمَّا بالنفس، وهو قوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وإمَّا بالمال وهو قوله ﴿وَانْحَرْ﴾ وإمَّا بإرشاد العباد إلى الأصلح، وهو قوله﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فثبتَ أنَّ هذه السورة كالتَّتِمَّة لِمَا قبلها. وأمَّا كونها كالأصل لِمَا بعدها، فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يَكفَّ عن أهل الدنيا جميعاً، بقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ …إلخ} ويُبطِل أديانهم، وذلك يقتضي نصرهم على أعدائهم; لأنَّ الطعن على الإنسان في دِينه أشدّ عليه من الطعن في نفسه وأهله.

ثم ذكر بعد سورة الكافرون ، سورة النصر ، فكأنه تعالى يقول: وعدتك بالخير الكثير، وإتمام أمرك، وأمرتك بإبطال أديانهم، والبراءة من معبوداتهم، فلما امتثلت أمري؛ أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر، وكثرة الأتباع، بدخول الناس في دين الله أفواجا. ولما تم أمر الدعوة والشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن، وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا، فليس له إلاَّ الذلّ والخسارة والهوان، وهو المراد من سورة المسد ، وإمَّا أنْ يكون طالباً للآخِرة، فأعظم أحواله أنْ تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات. ثمَّ ختم –سبحانه- كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف، فبدأ بذِكْر صفات الله، وشرح جلاله في سورة الإخلاص ، ثمَّ أتبعه بِذكْر مراتب مخلوقاته في “الفَلَق”، ثمَّ ختمَ بِذِكْر مراتب النفس الإنسانية في “الناس”، وبهذا ختمَ الكتاب … فسبحانَ مَن أرشد العقولَ إلى معرفة هذه الأسرار اللطيفة، والكنوز الثمينة!!

والله أعلم بما هو خير ونافع لكل إنسان، عالم الغيب وما فى الصدور، كل ما نزله من آيات وذكر فى القرآن الكريم هو شفاء لما في الصدور.