من هدي النبي في معاملته مع الصحابة الكرام والناس أجمعين اهتمامه بإصلاح ذات البين، والتأكيد على الأمور التي تزيد الألفة والمحبة والرحمة والتعاون بين المسلمين، والمراد بذات البين: الخصال المفضية إلى البين من المهاجرة والمخاصمة بين اثنين بحيث يحصل بينهما الفُرقة، فكان هديه الدعوة إلى إصلاح البين وامتثال ذلك في الواقع.

ففي الحديث الشريف أن النبي يقول: “والله، ‌لا ‌تدخلوا ‌الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. قال: إن شئتم دللتكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم”[1] والحلف هنا للتأكيد على ضرورة الحب الصافي والمودة المشتركة بين المسلمين، واجتناب كل أمر يدعو إلى التحاسد والتقاطع وإيغار الصدور والتنازع حتى يصل إلى التفرقة بين أفراد المجتمع، ولذا يقول الله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46].

ومما نلاحظ من الحديث السابق ربط التحابب بين المسلمين بأصل الإيمان، واعتبر بقاء الإيمان ببقاء المحبة ونفيه بنفيها، وهذا يشدد على أن خصلة صلاح ذات البين من ثمرات الإيمان لأنها هي التي تجلب المحبة وتنميها وتغذيها حتى تعطي أكلها كل حين بإذن الله، فكان أداة للمحبة والرحمة، فما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال السندي -شارحا للحديث السابق -: أن المقصود بقوله: “لا تدخلوا الجنة..” الحديث أي: لا تستحقون دخول الجنة أولا حتى تؤمنوا إيمانا كاملا، ولا تؤمنون ذلك الإيمان الكامل حتى تحابوا، وأما حمل “حتى تؤمنوا” على أصل الإيمان، وحمل “ولا تؤمنوا” على كماله، فبعيد.

ما هو أجر إصلاح ذات البين؟

دعا الإسلام إلى إصلاح ذات البين لا سيما ذات بين المسلمين ورتب على هذا العمل أجرا وثوابا، ومن ثواب هذا العمل ما يأتي:
1- إصلاح ذات البين دليل المحبة وأثر كمال الإيمان، يفيد الحديث (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) كذلك على أجر إصلاح ذات البين الذي يثمر المحبة في القلوب، حيث إن المحبة من خصال كمال الإيمان، وجاءت أحاديث أخرى تؤسس المعنى ذاته، من ذلك: الحديث الصحيح (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير)[2].  

والمراد أن يكون حب الإنسان لأخيه بالتساوي مع حبه لنفسه بل يفضل أخاه على نفسه في الحقوق كما قال أبو الزناد[3]. فإذا كان هناك ما يدعو إلى الخصومة بينه وبين أخيه فإنه يبادر بالإنصاف ويكف عنه الأذى والمكروه، قال الأحنف بن قيس: كنت إذا كرهت شيئا من غيرى لم أفعل بأحد مثله.

ومن هنا نجد أثر المحبة في التصالح بين الناس على مستوى الإيمان الفردي والجماعي، فحيث وجدت المحبة ظهر أثرها في صلاح المجتمع ككل، فيقل فيها الشقاق والشحناء والفرقة يقول الله تعالى آمرا المؤمنين بما يحقق غاية الإيمان، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1]، فقد نزلت الآية الكريمة بسبب الخلاف الذي وقع بين المسلمين في قسمة غنائم بدر، وهي أول غنائم المسلمين، فكان الأمر بالتقوى أولا على وجه العموم، ثم الأمر بالإصلاح فيترفعوا بسببه عما يوسع الخلاف والتنازع، إذا كانوا مؤمنين، فالإيمان يقتضي ترك الخصومة.

قال ابن عاشور: «إنا أمرناكم بما ذكر إن كنتم مؤمنين، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال»[4].

2 – إصلاح ذات البين سبب لحصول رحمة الله تعالى  للعامة والخاصة، ومن الثواب المترتب على إصلاح ذات البين أنه يقوي رابط الأخوة والتعاون بين الناس، ويجلب لهم الرحمة من الله تعالى، وما جاء في سورة الحجرات يكفي في إثبات هذا الأثر الكبير، يقول الله تعالى:  ﴿‌إِنَّمَا ‌الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10].

3 – أجر الإصلاح بين الناس أكبر درجة من الصيام والصلاة، وهذا ظاهر في الحديث الشريف: عن أبي الدَّرداء، قال: قال رسولُ الله --: “‌ألا ‌أخبِرُكُم ‌بأفضَلَ ‌من ‌درجةِ ‌الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقَة؟ ” قالوا: بَلَى يا رسولَ الله - – قال: “إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وفسادُ ذات البين الحالِقَة[5].

قال صاحب “عون المعبود”: إصلاح ذات البين أي: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال ألفة ومحبة، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] وهي مضمراتها. وقيل: المراد بذات البين المخاصمة والمهاجرة بين اثنين بحيث يحصل بينهما بين، أي: فرقة، والبين من الأضداد الوصل والفرق.

و”فساد ذات البين الحالقة” أي: هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستاصل الموسى الشعر.

وفي الحديث: حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب عن الإفساد فيها، لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها، نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصّة نفسه.

كيف حذر الإسلام عن فساد ذات البين؟

جاء الحذر من دواعي الفساد والإفساد في القرآن الكريم جملة وتفصيلا، إذ جعله القرآن أحد خصال المنافقين أدعياء الإيمان، لأن إفساد ذات البين كما هو حالقة الدين كما سبق في الحديث المذكور آنفا، فإنه كذلك ينافي حقيقة الإيمان وينقض أصوله، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ‌لَا ‌تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12]، وكان من صور إفساد المنافقين بأفعالهم إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين[6].

ومن الحذر والنهي عن الإفساد وأعماله بالتفصيل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى ‌سَعَى ‌فِي ‌الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 205-206]. حيث كشفت الآية الكريمة بعض المفاسد التي تقع من المنافقين وهم متخفون بين المسلمين، وهذا الصنف سرعان ما ينكشف أمره، فتراه إذا توارى عن الأعين يكون ضد ما قال، فيسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث (الزرع) ويقضي على النسل، إرضاء لنزعات نفسه الأمارة بالسوء، وانقيادا لأهوائه وشهواته، وإيثارا لمقاصده الدنيوية الحقيرة، والله سبحانه لا يرضى بالفساد ولا يحبه، ولا يحب المفسدين، ولا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

وإذا نصحه إنسان، فقال له: اتق الله، حملته الحمية الجاهلية، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام، لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين، فيكفيه عذاب جهنم، فهي مأواه ومهاده، ولبئس المهاد مهاده، بسبب سوء عمله في الدنيا، وسوء خداعه وحاله ولحنه في كلامه[7].

جملة من هدي النبي في إصلاح ذات البين

كان من هدي النبي في إصلاح ذات البين أنه يقطع جميع الأبواب التي تؤدي إلى الفساد وإفساد ذات البين، من ذلك ما جاء في صحيح مسلم:

عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله عوف بن مالك، فأخبره، فقال لخالد: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟) قال: استكثرته. يا رسول الله! قال (ادْفَعْهُ إِلَيْهِ)، فمر خالد بعوف فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثم قال: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ. فقال (لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ! لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ! هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إِنَّمَا أنا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا. ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا. فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا. فَشَرَعَتْ فِيهِ. فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ. فَصَفْوُهُ لكم وكدره عليهم).  

وهذه القضية التي ذكرها الحديث جرت في غزوة مؤتة سنة ثمان. وهذا الحديث قد يستشكل من حيث إن القاتل قد استحق السلب، فكيف منعه إياه؟

ويجاب عنه بوجهين: أحدهما لعله أعطاه ذلك للقاتل، وإنما أخره تعزيرا له ولعوف بن مالك، لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه، وانتهكا حرمة الوالي ومن ولا ه.

الثاني لعله استطاب قلب صاحبه باختياره وجعله للمسلمين. وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه، للمصلحة في إكرام الأمراء.

وقد دعا النبي خالدا إلى دفع السلب لصاحبه، إنصافا منه، دون التفريق بين الراعي والرعيه.

ولكن غضب النبي حين ظهرت بادرة غير مرضية من الصحابي الجليل عوف بن مالك، حيث جذب عوف برداء خالد ووبخه على منعه السلب منه، ثم قال عوف: هل أنجزت لك ما ذكرت مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فإنه قد كان قال لخالد: لابد أن أشتكي منك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وفي كلام عوف بن مالك نوع من التقصير والتهكم بمنصب الإمارة، والإزراء عليه، ولذلك غضب النبي – – من ذلك حين سمعه، ثم أمضى ما فعله خالد بقوله: (لا تعطه يا خالد! )، ونوَّه به، وعظم حرمته بقوله: (هل أنتم تاركو لي أمرائي؟ ! )

وقوله: (ادفعه إليه)؛ هو أمر على جهة الإصلاح ورفع التنازع، فلما صدر من عوف ما يقتضي الغض من منصب الإمارة أمضى ما رآه الأمير؛ لأنه لم يكن للقاتل فيه حق[8].

فكان من النبي أن أمر خالدا أن يمسك ما كان سيعطيه بسبب كلام عوف وصنيعته. وهكذا يظهر لنا من هدي النبي أنه أنصف الجميع وسعى في الإصلاح بينهم حتى لا يكون لأحد في نفسه شيئ على الآخر.