تُحيل مادة “قضى” في اللغة العربية إلى معنى الـحـُكْم. فالقاضي معناه: القاطع للأمور، الـمُحْكِم لها. يُقال: اسْتُقضي فلانٌ: أي جُعِل قاضيا يحكُم بين النَّاس. وقَضَّى الأميرُ قاضيًا، كما تقولُ: أَمَّرَ أميرًا. والقضاءُ هو: الـحتْمُ والأمرُ. يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[الإسراء: 23]، أي أمرَ وحتَم. أمَّا موضوع القضاء؛ فيتعلَّق بالأحكام الفقهية والـمدنية، وأوضاع القُضاة، والأنظمة القضائية، وما يرتبط بتحقيق العدالة من وسائل.

ومن أقدم الكتب الـمتعلقة بهذا الباب: كتاب “أخبار القضاة” لِمحمد بن خلف الـمعروف بوكيع الـمتوفَّى سنة 306هـ. وكتاب “أخبار قضاة مصر” لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي (283-350هـ). وقد قصر حديثه فيه على أخبار قضاة مصر، وتاريخ توليتهم ووفاتهم، وذكَر شيئا من أخبارهم وقضاياهم. كما غطَّى الـحقبة التاريخية منذ ابتداء القضاء في الإسلام حتى آخر زمن القاضي بكَّار بن قتيبة الذي تولَّى القضاء بمصر من قِبَل الـخليفة العباسي الـمتوكِّل على اللَّه في يوم الـجمعة 8 جمادى الآخرة 246هـ. ثم ذيَّل عليه أبو محمَّد حسن ابن إبراهيم بن زُولاقٍ الـمصريِّ (206-387هـ)، وصولا إلى أخبار القاضي محمَّد بن النعمان سنة 386هـ. ووضع محمَّد بن علي بن يوسف الـمعروف بابن الـمُيسِّر (ت 677هـ) تاريخ القضاة، وكذلك فعل سراج الدِّين عمر بن علي الأنصاري الـمعروف بابن الـمُلقِّن ( 723- 804هـ).

أما ابن حجَر (773- 852هـ)، فقد ألَّف مجلدا كبيرا سمَّاه: “رفعُ الإصْرِ عن قُضَاة مصر”، ثمّ وضع جمال الدِّين يوسف بن شاهين الكركي الـمعروف بسبط ابن حجر ( 828- 899هـ) كتابا سمّاه: “النجوم الزاهرة بأخبار قضاة مصر والقاهرة”، فُرغ من تأليفه في 877هـ. ويُعدِّد شمس الدِّين محمَّد بن عبد الرحمن السَّخاوي (831- 902هـ) في كتابه: “الإعلان بالتوبيخ لِمن ذمَّ التاريخ” أسماءَ مَن وضعوا مصنَّفات في تاريخ القضاء.

ومن ثمَّ يُمكننا تقسيم الكتب الـمتعلقة بالقضاء إلى قسمين:

أولهما: الـمصادر التي تُؤرِّخ للقضاء في الإسلام بصفةٍ عامة، وبعض تلك الـمصادر ينحو إلى مقارنة النُظم القضائية الإسلامية بما يُشابهها لدى الأمم الأخرى.

ثانيهما: الـمصادر الـمتعلقة بقضاء الأقاليم؛ ككتب التاريخ التي تقتصر على تاريخ القضاء في مصر، أو في دمشق، أو في البصرة، أو في قرطبة …إلخ.

على أنَّ ثمة تباينات بين الباحثين فيما يتعلَّق بتطوُّر تاريخ القضاء في الإسلام، حيث يتم تقسيمه عادة إلى أطوارٍ ثلاثة:

أولها: منذ هجرة النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حتى سنة 150هـ؛ سنَةُ تدوين الأحكام.

ثانيها: منذ تشييد مدينة بغداد حتى سنة 1255هـ.

ثالثها: منذ أصدر السُّلطان عبد الـحميد الثاني الـخطَ الهمايوني، الذي أدخل بموجبه الإصلاحات في الدولة العثمانية؛ جريًا على عادة النظم الغربية الـحديثة.

كما نصادف اهتمامًا مبكِّرًا أيضًا بالتأريخ للقضاء في الإسلام؛ على غرار كتاب ابن عرنوس: “تاريخ القضاء في الإسلام”، الـمطبوع سنة 1934م. وقد اهتم بعض الباحثين بجمع نصوصٍ تتعلق بتاريخ القضاء ونشْرِها والتعليق عليها؛ ككتاب: “ثلاث رسائل في القضاء الإسلامي”؛ لسُريج بن يونس البغدادي الـمتوفى سنة 235هـ، وكتاب: “وثائق في أحكام القضاء الـجنائي في الأندلس : مُستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأندلسي الـمتوفَّى سنة 486هـ”. وفي السِّياق ذاته نلاحظ اهتمامًا أكاديميا بتاريخ القضاء في أزمنة محدَّدة؛ ككتاب: “القضاء والقضاة في الإسلام: العصر العباسي”، وكتاب “تاريخ القضاء في الأندلس: من الفتح الإسلاميِّ إلى نهاية القرن الـخامس الـهجري”.

على أنَّ ممثلي “لاتجاه الاجتماعي – القانوني” قد اهتموا بدراسة موضوعي: القضاء والـحسبة، بوصفهما من الـخطط الدينية الشرعية الـمندرجة تحت الإمامة الكبرى، التي هي الـخلافة بحسب تعبير ابن خلدون. فالقاضي والـمحتسب: نائبان عن الـخليفة، أو الوالي، الذي هو الرئيس الدِّيني والدُّنيوي للدولة الإسلامية، فهما ينوبان عنه إما مباشرة أو بطريق غير مباشر. أمَّا في الدِّين؛ فبمُقتضى التكاليف الشرعية الـمُطالَب (القاضي أو الـمحتسب) بتبليغها وحمل الناس عليها. وأمَّا سياسة الدُّنيا؛ فبمُقتضى مصالحهم من العمران البشريِّ الذي هو ضرورة اجتماعية.

كما يهتم أصحاب هذا الاتجاه بيان أوجُّه العمُوم والـخصُوص فيما يتعلَّق بالـحسبة والقضاء: فالـحسبة مُوافِقةٌ لأحكام القضاء في بعض الـمسائل، وتقصُر عنها في مسائل أخـرى. فتتفق مع أحكام القضاء في جواز الاستعدَاءِ إلى القائِم بها والادعاءِ أمامه في بعض حقوق الأفراد؛ لتعلُّقِها بمنكر ظاهر هو منصوبٌ لإزالَتِه، واختصاصِها بمعرُوف بيِّنٍ هو مندُوبٌ لإقامته. كما يهتمُ ممثلوا هذا الاتجاه أيضًا بدراسة مظاهر التَّأثير والتأثر فيما بين الأحكام الشَّرعية في القضاء الإسلاميِّ وشبيهاتها في الأنظمة القضائية القديمة يونانية كانت أم رومانية، وفي الأنظمة الغربية الحديثة.

يمكن القول : إنَّ جهود العلَّامة عبد الرزاق السنهوري (11 أغسطس/ آب 1895- 21 يوليو/ تموز 1971م) في الجانب القضائي تعدُّ من أبرز الـمحاولات الـجادة في الدِّراسات العربية الـحديثة. فمنذ أطروحته للدكتوراه، والتي تناول فيها موضوع الـخلافة الإسلامية، حاول السنهوري بشكل معمَّق مناقشة الوسائل القانونية التي يمكن من خلالها للشريعة الإسلامية أن تصبح الأساسَ الوطيد الذي تُقام عليه النُّظم القضائية الـمعاصرة، وذلك بعد أن يتم إخضاعها لعملية تكييف علمي موضوعي .. وتلك قضية أخرى.