يعد “شبلي حبيب الله بن سراج الدولة النعماني” واحدًا من أبرز علماء الهند في العصر الحديث، وأحد أعلام النهضة الأدبية والعلمية بها، ومن رواد الإصلاح والفكر الإسلامي الذين ساهموا بجهود ملموسة في حركة الأدب والتاريخ والدعوة الإسلامية في شبه القارة الهندية.
ولد شبلي النعماني في قرية “بندول” من أعمال “أعظم كرة” بالهند سنة (1275هـ=1858م) لأب من أصل برهمي، وكان جده الثالث عشر “سيوراج سنك” قد اعتنق الإسلام وتسمى “سراج الدين”.
وكان والده الشيخ “حبيب الله” من العلماء فاعتنى بتنشئته ورعايته ليشب محبا للعلم، وقد رحل شبلي في طلب العلم وتنقل بين لكنو ودلهي ولاهور ورامبور وسهارنبور وغيرها من المدن الهندية؛ فدرس الأدب والفقه والحديث وعلوم الفارسية والأدبية والعربية، كما درس الهندسة والمنطق والفلسفة، وتلقى العلم على عدد من أعلام الهند، منهم الشيخ “محمد فاروق الجرياكوتي”، والشيخ “أحمد علي”، والشيخ “إرشاد حسين”، والشيخ “فيض الحسن.
وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره سنة (1293هـ=1876م) قرر شبلي أداء فريضة الحج، وهناك اتصل بعدد من علماء الحجاز، وأتم تعليمه بالأراضي المقدسة، ثم عاد بعد ذلك إلى “أعظم كرة” حيث عمل بالمحاماة لفترة قصيرة، ولكنه لم يستطع أن يندمج في تلك المهنة طويلا وسرعان ما تركها ليعمل بوظيفة أخرى، إلا أنه لم يستطع أن يعيش بعيدا عن البحث والدراسات فدعاه حنينه للعلم وشوقه للمعرفة إلى التفرغ للقراءة والاطلاع فترك الوظائف العامة وعكف على المطالعة والدراسة والبحث، ثم ما لبث أن بدأ في الكتابة والتصنيف، وظهرت مواهبه وقدراته في التأليف ونظم الشعر، وبدأ اسمه يلمع ويشتهر ذكره بين قراءة الأردية والفارسية.
الرحلة في طلب العلم
جامعة عليكرة الإسلامية بالهند من الداخل
وفي تلك الفترة وبالتحديد في سنة (1300هـ=1882م) التقى شبلي النعماني الذي كان في نحو الخامسة والعشرين من عمره بالسيد “أحمد خان” مؤسس جامعة عليكرة؛ فعرض عليه أن يعمل معه في التدريس، وتردد شبلي في البداية، ولم يبد رغبة في العمل بالتدريس، إلا أنه بعد مناقشات ومحاورات وافق على أن يكون أستاذا لآداب اللغتين العربية والفارسية فكانت تلك هي البداية الحقيقة لنشاطه العلمي الجاد.
واستمر شبلي في عمله في جامعة عليكرة الإسلامية لمدة عشر سنوات حتى سنة (1310هـ=1892م)، أقام خلالها في بيت السيد أحمد خان في صحبة واحد من كبار أدباء الأردية وشعرائها هو “ألطاف حسني”، كما صاحب المستشرق الإنجليزي المعروف “توماس أرنولد” صاحب كتاب “دعوة الإسلام”، وأفاد من صحبتهما ومجالستهما، كما أفاد من مكتبة السيد أحمد خان العامرة بمختلف العلوم والفنون التي كانت تضم الكثير من المطبوعات المصرية والأوروبية؛ فكان يقضي فيها الساعات الطوال بين البحث والاطلاع.
وكانت ثمرة تلك المرحلة أن قام بتأليف عدد من الكتب والرسائل تتناول تاريخ الإسلام والمسلمين، وتنوه بأمجادهم الغابرة، من أشهرها “مسلمانون كي كي كذشته تعلم” أي تعليم المسلمين في الماضي، و”أميد” أي فجر الأمل، كما ألف كتابا عن الخليفة المأمون، وآخر عن سيرة أبي حنيفة النعمان.
وفي سنة (1310 هـ=1892م) قام شبلي النعماني برحلة إلى منطقة الشرق الأوسط فزار الشام ومصر وإستانبول وبيروت والقدس، وقد منحه السلطان العثماني النيشان المجيدي تقديرا لعلمه ومكانته واحتراما له، وقد أفاد النعماني من هذه الرحلة أمورا كثيرة أهمها أنه استطاع التعرف على نفائس كتب التراث والأدب واللغة الموجودة بالمكتبات وبخاصة في مصر.
وعاد شبلي النعماني مرة أخرى إلى جامعة عليكرة حيث قوبل بحفاوة بالغة، وسجل مشاهداته وانطباعاته عن رحلته العلمية الطويلة في كتاب بعنوان “سفرنامة مصر وروم”.
وبالرغم من محاولات شبلي العديدة لترك التدريس بالجامعة، فإنه كان يُقابل بالرفض من السيد أحمد خان في كل مرة يقدم فيها استقالته.
فلما توفي السيد أحمد خان سنة (1316هـ= 1898م) ترك الجامعة، وعاد إلى مسقط رأسه في “أعظم مرة” حيث استطاع إنجاز كتابه القيم عن سيرة الفاروق عمر بن الخطاب الذي ظل يعد له سنوات طويلة، واتجه شبلي إلى المشاركة في النهضة الفكرية الإسلامية وعكف على البحث والتأليف.
تأسيس ندوة العلماء
ألطاف حسين ممن أفادوا النعماني
ثم تولى بعد ذلك رئاسة “دار العلوم والفنون” في حيدر آباد، وقضى بها بضع سنوات كتب خلالها عددا من المصنفات عن الغزالي، وسوانج مولائارم، وعلم الكلام، وموازنة أنيس ودبير، وغيرها من الأعمال، ولكنه ما لبث أن استقال وعاد إلى مسقط رأسه.
وقد شارك شبلي النعماني في تأسيس جمعية ندوة العلماء سنة (1312هـ=1894م)، ثم اختير أمينا لها سنة (1319هـ=1901م)، واجتهد شبلي في وضع منهج تعليمي متطور لكلية دار العلوم ضمنه كل ما استفاده من رحلاته العلمية وتجاربه العملية في مجال التعليم.
واستطاع شبلي من خلال عمله بالتدريس ومشاركته في الجمعيات المختلفة أن يكشف ويفند كثيرا من الشبهات التي حوتها بعض الاتجاهات الفكرية والثقافية الغربية، والتي ظهرت من خلال مؤلفات عدد من المستشرقين والمبشرين.
وكان منهجه في الرد على تلك الشبهات وتفنيد تلك المزاعم والافتراءات وإبطالها شبيها بمنهج الشيخ “محمد رشيد رضا” نقدين لشبلي النعماني، وأعرب عن إعجابه بعلمه وفكره حينما حضر مؤتمر المسلمين في لكنو فقال عنه: “هو عالم مستقل لا عالم رسمي مقلد، وإنه أستاذ نفسه وتلميذ همته، وقد استطاع بجده واجتهاده أن يصبح أشهر نوابغ علماء الهند في هذا العصر، لا يعرف له ضريب في إتقان اللغة العربية وطول الباع وحسن التذوق في فهم منثورها ومنظومها والقدرة على الكتابة بها”.
في معترك الثقافة والفكر
ولم يكن شبلي النعماني بمعزل عن الحركة الثقافية والفكرية في العالم العربي والإسلامي، فعندما أصدر “جورجي زيدان” كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي” الذي نال شهرة كبيرة وذاع صيته بعد أن تداولـه الناس وأقبلوا عليه، وحينما اطلع النعماني على الكتاب استطاع بعقليته العلمية النافذة وبصيرته الواعية أن يقف على كثير مما جاء فيه من أخطاء علمية وتجاوزات، فوضع كتابه “انتقاد تاريخ التمدن الإسلامي”، الذي طبع بمطبعة المنار بالقاهرة سنة (1330 هـ=1912م).
وبعد رحلة كفاح طويلة انطفأت تلك الجذوة التي طالما أضاءت الطريق أمام الدارسين وطلاب العلم ورواد الحقيقة، وتوفي شبلي النعماني في (30 من ذي الحجة 1332 هـ=18 من نوفمبر 1914م) عن عمر بلغ 56 عاما بعد أن ساهم بنصيب وافر في نشر الدعوة الإسلامية، وإبراز العديد من الجوانب الحضارية المشرقة في تاريخ الإسلام.
وقد لقي النعماني ما يليق به من الوفاء والتكريم، فقد أطلقت ندوة العلماء اسمه على مكتبتها الجديدة؛ تكريما له وتخليدا لذكراه.
سمير حلبي5>
أهم مصادر الدراسة:
أعلام القرن الرابع عشر الهجري: أنور الجندي – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – (1390هـ=1970م).
سيرة الفاروق عمر بن الخطاب: شبلي النعماني – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – (1420هـ=2000م).
الموسوعة الذهبية: د. فاطمة محجوب – دار الغد العربي – القاهرة – د.ت.
مجلة منار الإسلام: العدد 11 – السنة 9 – (ذو القعدة 1404 هـ=أغسطس 1984م)– في ندوة العلماء بالهند ومكتبة شبلي النعماني – عبد الفتاح سعيد.