بدأت رسالة خاتم النبيين محمد ﷺ بأول وأعظم عنوان للعلم والمعرفة كتب في قدر الله على أبرز لوحات التاريخ ، يوم أن قالت السماء لنموذج الرسالات الإلهيّة الأعلى محمد ﷺ : {اقْرَأْ}! هكذا مطلقة، بصيغة الأمر المطلق الذي لا يتقيّد بمقروء معيّن من علوم البشر ومعارفهم وفنونهم وأفكارهم .. ولا تتقيّد بقراءة من كتاب مكتوب بما عرف الناس من طرائق الكتابة، وأساليب تقييد العلم والمعارف الإنسانية .. ولا تتقيد بزمن تقع فيه القراءة .. ولا تتقيّد بمكان معين تجري القراءة بين جنباته! فهو طلب قراءة فحسب ..
والحقائق المطلقة لا يمكن أن تتحقّق في واقع الحياة والوجود الحسّي إلا في صورة من صور جزئياتها .. وليس هناك مقروء معيّن يتحقّق به طلب القراءة في جزئيّة منها! فهذا الطلب المطلق بهذه الصيغة: {اقْرَأْ} على ما احتفّ به من أحوال مفاجأة الوحي وجوّها، صريح في تسجيل العنوان الأوّل لرسالة محمَّد ﷺ في لوحة الحياة بأخصّ خصائص خلودها، وشمولها شمولًا كاملًا، لا يفوته جيل من الناس، ولا زمن من الأزمان، ولا مكان من الأمكنة، ولا يندّ عنه علم من العلوم التي عرفها البشر في مدارج التطوّر الإنساني، أو التي سيُفتح إلى معرفتها سبلٌ لا عهد للعقل الإنسانيّ بها فيما مضى من السنين والأحقاب، ولا تذهب عنه معرفة من المعارف التي كانت في ماضي الحياة، أو التي ستكون في مستقبلها! ومعناه: (كن قارئًا)!
فالمقروء في رسالة محمد ﷺ تحت عنوانها الأوّل: {اقْرَأْ} مقروء لا يقرؤه الناس، ولكنهم يقرؤون عنه، وعلم لا يعلمونه تعلّمًا، ولكنهم يعلمون عنه، ومعرفة ليست في متعارف معارف الناس، ولكنهم يتطلّعون إليها، هو علم حقائق الموجودات المكتوب في كتاب (الكون) وسفر الحياة، وهو معرفة عناصر الكائنات مسطورة في صحف الطبيعة. وقد تكرّر هذا الأمر المطلق في أوّل لقاء يقظي بأمين الوحي جبريل عليه السلام -كما أسلفنا- وهو اللقاء الذي بدأت به الرسالة- ثلاث مرات، بصورة واحدة!ولمّا جاء في المرّة الرابعة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (العلق 1- 5) مقرونًا بما يقرأ، لم يجيء مطلقًا بطلب القراءة، على أنه هو المطلوب تحقيق قراءته بالأمر بطلبها؛ وإنما جاء مؤكّدًا لإطلاق الأمر، وتحقيق القراءة في ذاتها على المعنى الذي ذكرناه.
فالنبي ﷺ في ردّه على هذا الطلب الغريب على حياته وطبيعة بشريّته الخاصّة نفى عن نفسه أنه يعرف القراءة، لا طبيعة وجبلّةً، ولا تعلّمًا وكسبًا، فهو أميّ لم يسبق له قط أن قرأ ولا تعلّم القراءة، ولا خطّ بيمينه كتابًا، ثم استبان من مخاطبه أمين الوحي (ماذا يقرأ)؟ و (كيف يقرأ)؟! وليس وراء الأمر بالقراءة في أوّل وأبرز عنوان في إطار رسالة محمَّد ﷺ إلا أن يستعين -على تحقيق ما لم يعرف، ولا هو في طوقه- باسم ربّه، وقد أبرز الاسم الكريم متعلّقًا تعلّقًا مباشرًا بفعل الأمر المطلق بالقراءة، مضافًا إضافة تكريم وتشريف خاصة بخطاب مَن طلب منه أن يقرأ ما لم يخطه قلم بيمين إنسان، فقيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وفي هذه الإضافة التكريميّة لون من الحفاوة السابغة، تبثّ الطمأنينة، ويقين الإيمان في قلب القارئ العظيم الذي سبقت له العناية، فتولّته رعاية الربوبيّة، وتعهّدته بتربيتها الخاصّة، وهو لا يعلم أنه المقصود بتعليمه وتأديبه، تعليمًا إلهيًّا، وأدبًا ربّانيًّا، لم يثافن معلّمًا قط، وهيّأته لا يراد به، وما يراد منه، وهو لا يعلم أنه الرسول خاتم النبيّين، فلا نبيّ بعده: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } (الشورى: 52، 53) وعموم المشيئة في الآية الكريمة مخصوص به ﷺ، ولكنها جاءت كما في الآية لتمثل إطلاق الألوهيّة في كمال إرادتها: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) ولُباب المعنى: كن قارئًا إعجازًا، ولو لم تكن من القارئين تعلّمًا ..
اقرأ مستعينًا باسم ربك الذي أعدّك بتربيته معلّما للدنيا، ولا تلتفتنَّ إلى الأسباب، واذكر بقلبك وروحك وعقلك مَن خلقها وسبّبها .. فأنت معلَّم بعلم من عندنا، عليم بعلم غير مكتوب في كتاب، كما يكتب العلماء المعلَّمون .. وأنت قارئ كتابنا الذي كتبناه بقلم كلمتنا الخالقة المبدعة، في صحفنا التي خطّها قلم قدرتنا في لوح الأزل، لتكون هذه القراءة خصيصتك إلى الأبد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (العلق: 1) والخلق من الله تعالى إبداع ما لم يشهد الوجود، وإيجاد ما لم يكن له قبل ذلك شهود.
وهذا العموم في المنفعل بالخلق يجعل فعل الخلق المطلق عن التقيّد بذكر مفعوله متشوّفًا لمتعلّقه، لتحقيق معناه، وهو صالح لكل مخلوق، وليس منها فرد جنس أو فرد نوع، أو فرد شخص، بأولى أن يكون متعلّقا لفعل الخلق المطلق -لفظًا- من غيره دون سائر المخلوقات، أجناسًا وأنواعًا وأفرادًا، فهي كلها كالمذكورة في تعلق فعل الخلق بها، وهذا الإطلاق مغاير للإطلاق في فعل طلب القراءة الذي بدأت به الرسالة الخالدة لأنّ فعل القراءة هناك لا يتطلّب التقييد ولا يقبله، وفعل الخلق هنا يستدعيه عامًّا شاملًا مضمرًا كالمذكور!والمنفعل بالخلق والإبداع عامًّا عمومًا شموليًّا هو (الكون) كله، على إطلاقه وشموله في عناصر تكوينه وإبداعه، فهو بالنسبة لفعل الخلق مفعوله الذي يتحقّق به، وبالنسبة لفعل القراءة مقروؤه الذي لا يتوقّف عليه تحقّقه، ولكن جوّ الأحداث يفرضه!وهذه إشارة معيّنة تشهد -بمقتضى إطلاق فعل القراءة عن متعلّق معيّن- أن المأمور بقراءته المستعان عليه باسم {رَبِّكَ} في اختصاصك بتربية النبوّة لخاتمة، وفي تخصيصك بالإضافة التكريميّة مع عموم واقع التربية لكل كائن- إنما هو كتاب الخلق والإبداع، وليس ذلك سوى حقائق الوجود مسطورة في كتاب (الكون) البديع!