ما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن كلمات الأذان الصادح من فوق قامات المآذن ستتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس، وما كان أحد يتصور أن ستغيب عن الأندلس حلقات العلم، ودروس الحديث والفقه في جوانب المساجد، وأن الأرض التي امتلأت جنباتها شعرًا ونثرًا عربيًا ستصبح غريبة الوجه واللسان.. ولكن هذا ما كان.
أخذ الضعف يدب في أوصال دولة الإسلام منذ أوائل القرن السابع الهجري، وبدأ الغزو الأسباني يجتاح أرض الأندلس، ويلتهم قواعدها وثغورها واحدًا إثر آخر، ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى قد سقطت جميعها في يد أسبانيا النصرانية، وتقلصت دولة الإسلام، في بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس.
مملكة غرناطة
وقامت في هذه الرقعة الصغيرة مملكة غرناطة سنة (629 هـ = 1232م) على يد “محمد بن يوسف بن نصر (ابن الأحمر)، وضمت ثلاث ولايات كبيرة هي ما بقي من أرض الأندلس للمسلمين: “غرناطة” في الوسط، وفيها العاصمة غرناطة، وولايات المرية في الشرق، وولاية مالقة في الغرب والجنوب، وامتدت حدودها حتى بلغت شاطئ البحر المتوسط ومضيق جبل طارق.
وتتابع على مملكة غرناطة اثنان وعشرون أميرًا في أكثر من قرنين ونصف من الزمان، واستطاعت في ثبات عجيب أن تستمر رغم صغرها وقلة عدد سكانها، وأن تواجه ببسالة محاولات أسبانيا لالتهامها -على ما بين الدولتين من بون شاسع في القوة والعدد، والإمكانيات والمدد- وأن تقيم بين ربوعها حضارة حافلة بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية.
أراجون وقشتالة
كان لاتحاد فرديناند وإيزابيلا أكبر الأثر في سقوط غرناطة
اتحدت أسبانيا النصرانية باتحاد مملكتي أراجون وقشتالة، وذلك بزواج الملكة “إيزابيلا” ملكة قشتالة من “فرديناند الخامس” ملك أراجون سنة (884 هـ = 1479م)، واتحدت إرادتهما على غزو مملكة غرناطة والقضاء على الأمة الأندلسية المسلمة، وساعدهما على ذلك اشتعال الصراعات الأسرية والحروب بين أبناء البيت الحاكم في غرناطة، وتفرق كلمتهم، وتوقد نار التعصب في قلبي الملكين الكاثوليكيين.
تدفقت جيوش الملكين المتحدين على مملكة غرناطة، ونجحا في الاستيلاء على مالقة أمنع ثغور الأندلس في (شعبان 892 هـ = أغسطس 1487م) ثم على وادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة (894 هـ = 1489م) ثم على بسطة في (المحرم 895 هـ= ديسمبر 1489م)، ولم يبق من معاقل الإسلام التي لم تسقط سوى مدينة غرناطة.
روح المقاومة
في أوائل (صفر 895 هـ= 1490م) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى أبي عبد الله الصغير أمير غرناطة سفارة يطلبان فيها تسليم مدينة “الحمراء” مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيمًا في غرناطة في طاعتهما وتحت حمايتهما، أو أن يُقْطِعاه أي مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمداه بمال وفير.
وكان جواب أبي عبد الله عدم الاستجابة لمطلب الملكين، وقام بجمع كبار رجال دولته، فأيدوا موقفه، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع عن مدينتهم ودينهم ما وسعهم الجهد والطاقة، واشتعلت الحرب بين المسلمين والأسبان خلال سنة (895 هـ = 1490م)، في عدة معارك واسترد المسلمون عدة حصون، ثم توقفت الحرب لمجيء الشتاء.
حصار غرناطة
أيقن ملك قشتالة أنه لا بد من الاستيلاء على غرناطة حتى تستتب له الأمور في المناطق الإسلامية؛ فهي لا تزال تبث روح المقاومة في نفوس المسلمين، وتحيي فيهم الأمل، فخرج على رأس جيش جرار يبلغ خمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ومزود بالأسلحة والعتاد واتجه إلى غرناطة، وضرب حصارًا شديدًا حولها في (12 جمادى الآخرة 896 هـ = 23 من إبريل 1491) وأتلف الحقول القريبة منها، ليمنع عنها المؤن والغذاء، وقطع كل اتصال لها بالخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الأسبانية في مضيق جبل طارق على مقربة من الثغور الجنوبية لتمنع وصول أي إمداد من مسلمي الشمال الأفريقي.
لم تستسلم غرناطة ورجالها البواسل للحصار الغاشم؛ فهي لا تملك أمام الجيوش الحرارة التي تموج كالبحر الزاخر سوى الشجاعة والإقدام، فكان المسلمون يخرجون لقتال العدو المحاصر يهاجمونه ويسببون له خسائر كبيرة، ولبثت المدينة عدة أشهر تعاني شدائد الحصار وهي صابرة محتسبة، حتى دخل الشتاء ونزلت الثلوج، واشتد بالناس الجوع والبلاء، وقلت المؤن، ودب اليأس إلى قلوب الناس جميعًا، وعند ذلك لم يجد أبو عبد الله مفرًا من بحث الأمر، فدعا مجلسًا من كبار الجند والفقهاء والأعيان وتبحاثوا ما هم فيه من ضيق وحرج، وأن المؤن أوشكت على النفاد، وأنه لم يعد للناس من طاقة للدفاع، واتفق الجميع على التسليم، وضاعت في هذا الجو المتخاذل أصوات الداعين إلى الصمود والثبات، ومقاومة المعتدي حتى الموت.
مصرع غرناطة
أرسل أبو عبد الله الصغير قائده “أبا القاسم عبد الله” إلى معسكر الملكين للمفاوضة في شروط التسليم، واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت في (21 من المحرم 897 هـ= 25 من نوفمبر 1491م).
وتضمنت المعاهدة شروطًا عديدة بلغت 56 مادة خلاصتها: أن يتعهد ملك غرناطة بتسليم المدينة إلى الملكين الكاثوليكيين خلال ستين يومًا من بدء توقيع المعاهدة، وأن يُطلق سراح الأسرى من الطرفين دون فدية، وأن يؤمّن المسلمون في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يحتفظوا بشرائهم وقضاتهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم من صلاة وصوم، وأن تبقى المساجد حرمًا مصونة، وألا يدخل نصراني مسجدًا أو دار مسلم، وألا يُولّى على المسلمين نصراني أو يهودي، وأن يعبر إلى “أفريقيا” من شاء من المسلمين في سفن يقدمها ملك النصارى في ظرف ثلاثة أعوام.
غير أن هذه العهود لم تكن في الواقع -حسبما أيدت الحوادث فيما بعد- سوى ستار للغدر والخيانة؛ فقد تم نقض كل هذه الشروط، وأُجبر المسلمون بعد سقوط غرناطة على الهجرة خارج البلاد والتنصر.
أحمد تمام5>