حسونة النواوي.. الإمام الشجاع (24 من المحرم 1317 هـ - 5 من يونيو 1899م)في الثامن من المحرم سنة (1313 هـ – 1895م) أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني قرارًا بتعيين الشيخ حسونة النواوي شيخًا للجامع الأزهر بعد استقالة الشيخ الأنبابي لمرضه، وكان الشيخ حسونة النواوي من نوابغ رجال الأزهر، وعمل بتدريس الفقه في كليتي: الحقوق، ودار العلوم. ووضع مؤلفًا بعنوان “سلم المسترشدين في أحكام الفقه والدين”، وقد رزق هذا الكتاب الذيوع والانتشار، واشتهر شهرة واسعة جعلت القائمين على نظارة المعارف يقررون تدريسه بالمدارس الأميرية.

* إصلاح الأزهر في عهده:

بادر الشيخ “حسونة النواوي” إلى الدعوة إلى إصلاح الأزهر منذ أن تولى المنصب الجليل، وارتبط اسمه بالقانون الذي صدر بعد سنة واحدة من توليه المشيخة في (20 من المحرم 1314 هـ – 1896م) وكان للشيخ “محمد عبده” يد صادقة وراء إصدار هذا القانون، الذي خطا بالأزهر خطوة واسعة نحو الإصلاح؛ إذ حدَّد هذا القانون سن قبول الطالب بالأزهر بخمسة عشر عامًا، وأن تكون له دراية بالقراءة والكتابة، وأن يكون حافظًا للقرآن الكريم أو على الأقل نصفه، ومنع هذا القانون تدريس كتب الحواشي منعًا باتًا، وقصرها على الطلبة المتقدمين دراسيًا، ونظم القانون الامتحانات، وجعلها على مرحلتين: الأولى بعد ثماني سنوات من التحاق الطالب بالأزهر، وتحصيله ثمانية علوم على الأقل من علوم اللغة والدين، ويختبر أمام لجنة تتكون من ثلاثة من العلماء برياسة شيخ الأزهر، والناجحون إما أن يكملوا دراستهم بالأزهر في المرحلة التالية، وإما أن يتم تعيينهم في وظائف الإمامة والخطابة والوعظ بالمساجد.

وأما المرحلة الثانية فتنتهي بامتحان الشهادة العالمية لمن أمضى اثنتي عشرة سنة من الدراسة، وتلقى العلوم المقررة بالأزهر، ويصبح من حق الحاصلين عليها التدريس بالأزهر.

وعني القانون بشئون الطلاب، فاهتم بتحسين أحوالهم المعيشية، ووسع لهم في المساكن الصحية، وحدد لهم بعض المعونات المالية.

* شجاعة الإمام:

عاش الشيخ الإمام حياة كريمة، أدى بها للمنصب واجبه ووقف أمام الحكام مواقف كريمة، حين تتجاوز سلطاتهم الحق، وتتعدى الواجب، ففي عام (1316هـ-1899م) وقع خلاف كبير بشأن إصلاح المحاكم الشرعية، وعرض على مجلس شورى القوانين (البرلمان) اقتراحا بندب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، ليشاركا قضاة المحاكم الشرعية العليا في الحكم، فوقف الشيخ “حسونة” ضد ذلك الاقتراح، وكان الإمام عضوًا في مجلس شورى القوانين، وجرت مناقشة بين الشيخ ورئيس النظار (مجلس الوزراء) مصطفى باشا فهمي، انتهت بأن غادر الشيخ الجلسة غاضبًا محتجًا.

وحاول الخديوي “عباس حلمي” أن يحمل الشيخ الإمام على قبول الاقتراح بعد تعديله، وتغيير ما يراه مخالفًا للشرع، لكن شيخ الأزهر أصر على موقفه، وقال للخديوي: “إن المحكمة الشرعية العليا قائمة مقام المفتي في أكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير في الاقتراح، فإنه لا يخرجه عن مخالفته للشرع؛ لأن شرط تولية المفتي مفقود في قضاة الاستئناف”.

وتألم الخديوي من صراحة الإمام، وصلابته في الحق، ومواجهته الخطأ بالإصلاح، فأصدر قرارًا بعزله عن منصبه في (24 من المحرم 1317 هـ – 5 من يونيو 1899م) دون اعتبار لهيبة المنصب، واستهانة بمكانته الرفيعة، وعين في مشيخة الأزهر الشيخ “عبد الرحمن قطب النواوي”، ابن عم الشيخ السابق، وولى الشيخ “محمد عبده” منصب الإفتاء، وكان الشيخ حسونة النواوي يجمع بين المنصبين: منصب شيخ الأزهر، ومنصب مفتي الديار المصرية.

* العودة إلى مشيخة الأزهر:

حسونة النواوي.. الإمام الشجاع (24 من المحرم 1317 هـ - 5 من يونيو 1899م)أعيد الشيخ “حسونة” مرة أخرى إلى منصبه في (26 من ذي الحجة 1324 هـ – 8 من فبراير 1907م) بعد أن ظل بعيدًا عنه نحو سبع سنوات، تولى خلالها مشيخة الأزهر أربعة من الأئمة العظام، واستكمل الشيخ ما كان قد بدأه من إصلاح الأزهر، وتطوير مناهجه الدراسية حتى يصل حاضره بماضيه التليد، فصدر القانون الجديد في سنة (1326 هـ –1908م)، بمقتضاه قسمت العلوم الدراسية إلى ثلاثة أقسام: علوم دينية، وعلوم عربية، وعلوم عقلية. وقسمت الدراسة أيضًا إلى ثلاث مراحل، كل مرحلة أربع سنوات، ولها شهادة تمنح في نهايتها، فالأولى: ابتدائية، والثانية: الشهادة الثانوية، والثالثة: الشهادة العالمية، وتعطي لحاملها حق التدريس بالجامع الأزهر، وتولي وظائف الإمامة والخطابة.

وأضاف هذا القانون الإصلاحي علومًا أخرى إلى جانب التي تدرس بالأزهر، شملت السيرة النبوية، والإجراءات القضائية، والتوثيقات الشرعية، ونظام القضاء، والإدارة، والأوقاف، والتربية، وطرق التدريس، والحساب والجبر والهندسة، والجغرافيا، وقواعد الصحة. والحقيقة أن كثيرًا من العلوم الحديثة كانت تدرس قديمًا بالأزهر، ونبغ عدد من أعلامه في هذه العلوم، لكنها توقفت في عهود التخلف التي ألمت بالعالم الإسلامي، وقد تهيب رجال الأزهر في هذه الفترة من هذه العلوم؛ لبعد عهدهم بها، وظنها أنها من علوم الإفرنج، وأنها ما دخلت الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو التقليل من شأنها.

ويذكر للشيخ حسونة أنه قام في أثناء توليه مشيخة الأزهر بجمع مكتبات الأزهر، وكانت مبعثرة في المساجد وأروقة الأزهر، وتحتوي على نوادر المخطوطات والكتب، وضمها في مكتبة واحدة، وأعاد نظامها وترتيبها، فأنقذ بهذا العمل ضياع ثروة نادرة من المخطوطات النادرة، وكان الأساس للمكتبة الأزهرية العامرية، التي تعد أضخم مكتبة تضم المخطوطات في مصر بعد دار الكتب المصرية.

* استقالة الشيخ من منصبه:

ولما وجد الشيخ حسونة أن الأمور في الأزهر لا تسير وفق ما كان يأمل من إصلاح وتطوير، وأن أهل الحكم وبعض مشايخ الأزهر يضعون العقبات في طريق الإصلاح ـ سارع بتقديم استقالته في (1327هـ – 1909م) ، ولزم داره، حيث يلتقي بتلاميذه ومحبيه حتى توفي في (24 من شوال 1343هـ – 18من مارس 1925م).