صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “المناخ والحضارة: بلاد الرافدين نموذجًا” للمؤلف خميس دحام مصلح السبهاني، الذي يناقش من خلال كتابه هذا العلاقة بين المناخ والحضارة في بلاد الرافدين خلال ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
الكتاب يتألف من 272 صفحة، ومؤلفه خميس دحام مصلح السبهاني، أستاذ التغيرات المناخية المساعد في قسم الجغرافيا، كلية الآداب، جامعة بغداد. نال الدكتوراه في علوم الأرض في الجغرافيا (تغيرات مناخية) من جامعة وارسو في بولندا. له عدد من الكتب المؤلفة، ونشر العديد من البحوث العلمية في مجلات محلية وعالمية رصينة. وهو عضو هيئة تحرير مجلة الآداب الصادرة عن كلية الآداب، جامعة بغداد.
لماذا بلاد الرافدين نموذجا؟
وقد تم اختيار بلاد الرافدين كنموذج لدراسة العلاقة بين المناخ والحضارة في بلاد الرافدين لسببين:
أولهما: أن هذه المنطقة انتقاليةٌ تتلاقى فيها الأنماط المناخية العالمية المختلفة، مصحوبة بالتنوع الطوبوغرافي؛ الأمر الذي يؤدي إلى تنوع أنظمتها المناخية زمانيًا ومكانيًا. وأي اختلال في التوازن أعلاه يقود إلى تغيرات مناخية حرجة.
وثانيهما: هو أن بلاد الرافدين تعدُّ مهد الحضارات الإنسانية الأولى الناضجة في جميع جوانبها المادية، والعماد الاقتصادي لهذه الحضارات هو الزراعة والإنتاج الزراعي، وأي تغير في المناخ له تأثيرات مباشرة في الإنتاج وما يتبعه من تأثيرات في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وأخيرًا السياسية. الاستنتاج الرئيس لهذا الكتاب هو أن المناخ كان العامل الحاسم في توجيه مجتمعات بلاد الرافدين، سواء بشكل مباشر وكان أكثر وضوحًا في الشمال، حيث الاقتصاد المعتمد كليًا على الزراعة المطرية، أو غير مباشر، كما هو الحال في الجنوب.
الواقع الجغرافي لبلاد الرافدين وما يجاورها
بلاد الرافدين أو الهلال الخصيب من أولى المناطق التي استوطنها الإنسان. وقد صنّف أحمد سوسة سكان بلاد الرافدين القدامى إلى أربعة أصناف، تبعًا لنمط حياتهم الزراعية وظروف معيشتهم؛ يمثل الصنف الأول سكان المناطق الجبلية في شمال العراق الحالي، ويُرجَّح أنهم سكنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور، وهم أول من مارس الزراعة وأسّس القرية في بلاد الرافدين. ويمثل الصنف الثاني الرعاة، وموطنهم الأصلي بادية الشام والجزيرة العربية، في حين يمثّل الصنف الثالث الجماعات الساميّة التي استقرت على شواطئ نهر الفرات، ونزحت من شبه الجزيرة العربية عقب حدوث الجفاف التدريجي هنالك بعد العصر الجليدي الأخير، وكانوا أول من أسّس المدن بوصفها نواة للإمبراطوريات القديمة، كما هي الحال في الإمبراطوريات الأكدية والبابلية والآشورية. ويمثل الصنف الرابع والأخير سكان الأهوار في جنوب بلاد الرافدين.
هذا التقسيم لسكان بلاد الرافدين القدامى يدلّل على كونهم أتوا إلى هذه المنطقة من أقاليم ووجهات جغرافية عدة؛ فمنهم من أتى من شبه الجزيرة العربية وبادية الشام، ويمثّلون أغلبية سكان العراق الحالي، وهم الساميّون. ومنهم السومريون والأقوام الجبلية التي دخلت العراق في أوقات متباينة، فاختلف العلماء في تحديد موطنهم الأصلي الذي هو، على الأغلب، الهضبة الإيرانية وامتدادها إلى شمال الهند وأواسط آسيا وبحر قزوين، ولا وجود لهم في العراق الحالي، باستثناء الأكراد الذين هُم من بقايا الميديين.
الظروف المناخية وتغيراتها
إن مناخ بلاد الرافدين في بداية الألفية الثالثة ق.م كان يقع تحت تأثير الأمطار الشتوية الناتجة من المنخفضات الجوية المتوسطية، تبعًا لمناخ البحر المتوسط. ومن جانب آخر، يبدو أن بلاد الرافدين الجنوبية كانت لا تزال تتأثّر بأطراف الأمطار الموسميّة الصيفية الناتجة من الرياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي؛ أي إن مناخ بلاد الرافدين كان يتمتع بنظام أمطار دائمة. ومع اقتراب نهاية الألفية الثالثة ق.م، تراجع نطاق الرياح الموسمية الصيفية جنوبًا إلى المناطق التي يحدث فيها اليوم أو قريبًا منها، في حين بقيت جميع أجزاء بلاد الرافدين بعيدة من تأثير الأمطار الموسميّة الصيفيّة، وواقعة تحت تأثير الأمطار الشتوية الناتجة من المنخفضات الجبهوية القادمة من الغرب.
ورأْيُنا هذا فيما يتعلق بإمكانية سقوط الأمطار الموسميّة على وسط العراق وجنوبه في النصف الأول من الألفية الثالثة ق.م، يمكن تدعيمه هنا بدليلين أساسيين إضافيين: أولهما هو أنه على الرغم من أن كثيرًا من سجلات المناخ القديم بكل أنواعه، وخصوصًا تلك التي عُنيت بدراسة الأمطار الموسمية في وسط الهولوسين ونهايته، بدأت تتراجع منذ عام 3000 ق.م، فإن تراجع جبهة اللقاء دون المدارية “ITCZ” نحو الجنوب، وما رافقه من ضعف في الموسميات، كانا بشكل تدريجي لا بشكل مفاجئ، وذلك نتيجة للانخفاض التدريجي في الإشعاع الشمسي.
واستمر هذا التحول مدة طويلة من الزمن إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن؛ ما فسح المجال للأجزاء الجنوبية والوسطى من بلاد الرافدين للتأثّر بهذه الأمطار مدة أطول، مع العلم أن الفترة 3000-2000 ق.م شهدت نشاطًا في الموسميات الصيفية تبعًا لما تبين لنا من خلال عدد من الدراسات التي عُنيت بالتحقق من نطاقات الأمطار الموسمية. وقد أشارت تلك الدراسات إلى وصول الأمطار الموسميّة الصيفية إلى خليج العقبة في الأردن خلال المدة نفسها.
أما الدليل الثاني، فمستمَدٌ من المصادر التاريخية والآثارية، وكما هو مبين في مرثية انهيار سومر وأور، التي ذكرت الجفاف والمجاعة وهجر المدن وتدميرها، ابتداء من الجزء الشمالي من مركز الإمبراطورية، ممثلًا بمدينة كيش في وسط بلاد الرافدين، باتجاه الجنوب نحو مدينة أور، والتي كانت آخر مدينة تعرضت للجفاف والتدمير. وهذا يعني أن الجفاف وفشل المحاصيل الزراعية يتمددان بصورة تدريجية من الشمال إلى الجنوب، متماشيين مع التراجع التدريجي للأمطار الموسمية الصيفية نحو الجنوب. وكما بيّنا سابقًا، فإن فصلية سقوط الأمطار في بلاد الرافدين أخذت شكلها الحالي منذ نهاية الألفية الثالثة. وكانت الفترة 2200-900 ق.م عمومًا بين جافة وشبه جافة، وخصوصًا في وسط بلاد الرافدين وجنوبها، في حين شهد المناخ تحسّنًا من حيث التساقط المطري بعد عام 900 ق.م، مع الاقتصار على نمط الأمطار الجبهوية الشتوية.
التغير المناخي وتطور مجتمعات بلاد الرافدين
في كتاب “المناخ والحضارة في بلاد الرافدين” وفي تحليل العلاقة المباشرة بين التغيرات المناخية والتطور الحضاري لممالك بلاد الرافدين وإمبراطورياتها خلال المدة من بداية السلالات الباكرة إلى نهاية حكم الإمبراطورية البابلية الحديثة، وفي فهم الكيفية التي تتمحور فيها البنية الاجتماعية والاقتصادية وما يتبعها من دور سياسي للمجتمعات في ظل ظروف مناخية متنوعة، يتضح وجود دور محوري للمناخ في نشأة الحضارات في بلاد الرافدين ونضجها ثم انهيارها، سواء كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالطريقة المباشرة كانت أكثر وضوحًا في المناطق التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة الديمية، ممثلة بشمال بلاد الرافدين، وكان لأي تغير في كمية الأمطار الساقطة انعكاس مباشر على كمية الإنتاج الزراعي ونوعه سلبًا أو إيجابًا، ومن ثم انعكاسه على استقرار المجتمعين الزراعي والرعوي وعدم استقرارهما على حدّ سواء، في حين كان التأثير غير المباشر يتمحور في جنوب بلاد الرافدين بشكل أوضح؛ إذ إن الانخفاض في كمية الأمطار ساهم في ارتفاع أعداد السكان في مدن الجنوب، القادمين من المناطق الهامشية المحيطة وخصوصًا من الشمال، نتيجة المجاعات التي خلّفها فشل المحصول هنالك، بشكل يفوق طاقة الزراعة المروية. يضاف إلى ذلك انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية المروية نتيجة ارتفاع نسبة الملوحة فيها؛ ما أدى إلى تفكّك المجتمعات، وانهيار كامل للكيانَين السياسي والإداري، وأخيرًا اندثار الحضارة، والعكس كان واضحًا.
كذلك ظهرت ثلاث مدد زمنية شهدت تأثيرًا إيجابيًا للمناخ في الهيكل الحضاري، اثنتان منها شهدتا تحسّنًا مناخيًا كبيرًا؛ إذ ارتفعت كمية الأمطار الساقطة، ورافق ذلك زيادة التعقيد في البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات البشرية حتى وصلت إلى مستوى الإمبراطورية العظمى، ومركزها في بلاد الرافدين، وخضعت لها مناطق الشرق الأدنى كلها وصولًا إلى أواسط آسيا، وتحكمت في جميع الخطوط التجارية الرئيسة في العالم القديم. هاتان المدتان شغلتا معظم الألفية الثالثة والأولى ق.م إذ بدأت الأولى في القرن التاسع والعشرين ق.م، وانتهت في القرن الثالث والعشرين ق.م، في حين امتدت الثانية من القرن التاسع ق.م إلى نهاية القرن السادس ق.م تقريبًا، وشملت كلتاهما ظهور الإمبراطوريات العظمى في تاريخ العراق القديم) السومرية “عصر السلالات الأولى”، والإمبراطورية الأكدية، والإمبراطورية الآشورية الحديثة، فضلًا عن الإمبراطورية البابلية الحديثة).
أما في ما يتعلق بالمدة الثالثة، فعلى الرغم من تحسن المناخ تحسنًا واضحًا، وظهور المجتمعات ذات التعقيد في التركيب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيها، متمثلة في سلالة بابل الأولى أو ما يُعرف بمدة حكم حمورابي، والعهد الكيشي والسلالة الآشورية المتوسطة، فإنها لم تصل إلى مستوى المدّتين السابقتين، لا من حيث مستوى التحسن في المناخ، ولا من حيث التعقيد الاجتماعي وحجم الإمبراطوية وقوّتها.
أما الجانب السلبي لميكانيكية العلاقة، فتمثّل في ظهور مدتين بارزتين شديدتي الجفاف في بلاد الرافدين وإقليم شرق البحر المتوسط والشرق الأدنى كله أيضًا، بالتزامن مع انهيار كامل للمجتمعات الحضرية في بلاد الرافدين حتى أُطلق على المدتين ما يُعرف بـ “العصور المظلمة”، فشملت المدة الأولى نهاية الألفية الثالثة وبداية الألفية الثانية ق.م، في حين شملت المدة الثانية نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الأولى ق.م.
احتوت المدتان الشديدتا الجفاف المشار إليهما سابقًا، فاصلتين لا يتجاوز زمن الفاصلة الواحدة منها قرنًا واحدًا، يشهد فيهما المناخ تحسنًا كبيرًا، متبوعًا بانتعاش حضاري بارز؛ إذ اقترنت الفاصلة الأولى – من وجهة النظر التاريخية – بظهور إمبراطورية أور الثالثة، “الانبعاث السومري”، في حين اقترنت الفاصلة الثانية بانبثاق المملكة الآشورية الوسطى، وعصر تجلات بلاسر الأول.
تحكمت الظروف المناخية تحكمًا غير مباشر بانتقال مراكز الحضارة بين أقسام بلاد الرافدين من الجنوب إلى الشمال، على شكل مراحل متباعدة كالآتي: في المرحلة الأولى، انتقل مركز القيادة السياسية والاقتصادية من السهل الجنوبي إلى وسط بلاد الرافدين (بابل) في حدود القرن التاسع عشر ق.م، وما عاد إلى جنوب بلاد الرافدين إطلاقًا، على الأقل خلال مدة الدراسة، بعد أن كان موقعه يراوح بين الجنوب والوسط. وجاء هذا الانتقال بعد أن تدهورت إنتاجية الأراضي الزراعية في جنوب بلاد الرافدين نتيجة تشبعها بالملوحة الناجمة عن التدهور المناخي، كما بيّنا آنفًا، والتي لم تتعافَ منها بعد هذا التاريخ.
أما الانتقال الثاني، فكان متزامنًا مع توثيق ذروة الملوحة الثانية، حيث أثبت وجودها في الأراضي الزراعية ضمن إقليم بابل في وسط بلاد الرافدين في بداية عام 1300 ق.م؛ إذ لاحظنا انتقال المركز السياسي من مدينة بابل إلى مدينة آشور في شمال بلاد الرافدين، وما عاد إلى وسط بلاد الرافدين حتى نهاية القرن السابع ق.م نتيجة الازدهار الزراعي في إقليم بابل، والذي نتج من سيادة المناخ الأمثل لمدة طويلة من الزمن، وساهم في تقليل نسبة الملوحة هنالك.