لا أحد يمكنه أن يشكك، أن “آيا صوفيا” التي يعني اسمها باليونانية “الحكمة المقدسة”، تعتبر “أثرا دينيا” مهما لدى المسلمين والمسيحيين على السواء. وهي تقع على مدخل مضيق البوسفور من الجانب الأوروبي لمدينة إسطنبول التركية التي كانت عاصمة لاثنتين من أهم الامبراطوريات في التاريخ، الإمبراطورية البيزنطية المسيحية ثم الإمبراطورية العثمانية المسلمة.
وقد شهدت آيا صوفيا تحولات تاريخية كبيرة تزامنت مع التحولات السياسية والدينية في تركيا. فمن كاتدرائية كبيرة للروم الأرثوذكس في قسطنطينية القرن السادس الميلادي إلى مسجد للمسلمين في آستانة أو إسطنبول آل عثمان في القرن الخامس عشر للميلاد. وها هي تعود مسجدا مرة أخرى بعد أن كانت متحفا لأكثر من ثمانية عقود.
انتفاضة جديدة متأخرة
إثر قرار القضاء التركي بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، الذي قضى بتحويل “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطابا تاريخيا استعرض فيه تاريخ إسطنبول وآيا صوفيا، وتحدث عن الإمبراطورية البيزنطية والفتح العثماني، وتناول وجود الكنائس في تركيا، وتاريخ منطقة البلقان الحديث.
واعتبر أردوغان أن القرار الذي تم اتخاذه خلال فترة الحزب الواحد عام 1934 “ليس خيانة للتاريخ فحسب، بل أيضا ضد القانون، لأن “آيا صوفيا” ليست ملكا للدولة ولا أي مؤسسة، فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح، مؤكدا حقوق تركيا التاريخية والقانونية التي تعود إلى 567 سنة”.
وقال أردوغان أنه من حق تركيا تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد بشكل يوافق ما جاء في سند الوقف (الوقفية)، وعرض سند وقفية السلطان محمد الفاتح، مؤكدا أن “كل ما تضمه هذه الوقفية أساسٌ لنا”، ولفت النظر إلى أن هناك أكثر من 453 كنيسة في تركيا.
و اعتبر الرئيس التركي فتح إسطنبول وتحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد من بين أنصع صفحات التاريخ التركي. بل ذهب إردوغان إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر “آيا صوفيا” أمانة تركها السلطان الفاتح، وتحولها إلى مسجد بعد 86 عاما “ما هو إلا انتفاضة جديدة متأخرة”، مؤكدا أن المشهد الجديد لهذا المعلم التاريخي والديني “بمثابة أجمل رد على الاعتداءات والهجمات الوقحة التي تستهدف قيمنا الرمزية في كافة أنحاء العالم الإسلامي”.
وقرار المحكمة يعني إعادة “آيا صوفيا” مجددا إلى مسجد، ونقل تبعيته من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية، وتحويلها للعبادة.
جدل تاريخي
الجدل حول آيا صوفيا ليس وليد اليوم، بل يعود تاريخه إلى أكثر من قرن من الزمن، فخلال أعوام احتلال الأناضول وإسطنبول دار نقاش حول تحويل آيا صوفيا إلى كنيسة، وكخطوة أولى تعكس النوايا، حطت وحدة احتلال مجهزة بالعتاد الكامل عند باب آيا صوفيا.
وفي ذلك الوقت، قال القائد الفرنسي لهذه الوحدة العسكرية للضابط العثماني حينها إنه يريد التموضع في المكان، وعلى الجنود الأتراك مغادرة المسجد. لكن الضابط العثماني حينها، وهو الرائد توفيق باي، منعه من ذلك. لكن اهتمام الأجانب بآيا صوفيا استمر في السنوات اللاحقة بمختلف الأعذار، سواء كان ذلك من قبيل التقرب الديني أو من قبيل أعمال ترميم الفسيفساء. وعليه كان منتظرا أن تتعرض تركيا ورئيسها إلى حملة انتقادات كبيرة قادتها جهات رسمية وغير رسمية رافضة لتغيير صورة آيا صوفيا شكلا ودورا ورسالة.
فما كان من إردوغان إلا الرد على هذه الانتقادات قائلا: “لا نستغرب إذا ما نادى هؤلاء لاحقا بتحويل الكعبة التي هي أقدم دار عبادة أو المسجد الأقصى إلى متحف”. كما أشار إلى نفس هذه العقلية (التي تعارض مسألة إعادة آيا صوفيا لمسجد) التي من الممكن أن تتقدم بمقترح لتحويل مسجد السلطان أحمد، درة مساجد إسطنبول إلى متحف أو معرض للصور، فقد سبق وأن تمت الدعوة أيضا لتحويل “قصر يلديز” (التاريخي بإسطنبول) كدار للقمار، وآيا صوفيا كنادٍ لموسيقى الجاز.
لكن الغريب أن الانتقادات ومواقف الرفض لقرار تركيا بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، لم تصدر فقط من دول غربية، وإنما أيضا من طرف دول عربية وإسلامية ، فضلت تغليب المصالح الضيقة والخلافات السياسية على المنطق والحق الديني والتاريخي، بحجة ضرورة الحفاظ على التراث الثقافي كقيمة عالمية إنسانية وإرث بشري لجميع الشعوب والثقافات والحضارات. حتى أن مستشارا لمفتي إحدى هذه الدول اعتبر تحويل معلم آيا صوفيا إلى مسجد “لعبة سياسية خطيرة!!”.
المساجد التي تحولت إلى كنائس
لكن يبدو أن الذين انتقدوا القرار التركي من غير الغربيين، لم يتحدثوا ولو مرة في حياتهم عن عدد المساجد التي حولت إلى كنائس ومعابد بعد أن طمست هويتها وجردت من معالمها ورموزها الإسلامية.
فلماذا لا يتحدثون عن مسجد “قصر الحمراء” في غرناطة، وهو أحد أبدع الآثار الإسلامية حتى اليوم، الذي تحول إلى كنيسة “سانتا ماريا”، بعد استغرق المسلمون في بناءه أكثر من 150 عاما؟
لماذا لا يتحدثون عن مسجد قرطبة الذي استمر المسلمون في تطويره قرابة قرنين ونصف القرن من الزمان، والذي تحول إلى “كاتدرائية مريم”؟
لماذا لا يذكرون “مسجد باب المردوم” في طليطلة في الأندلس، الذي بُني في العهد الأموي عام 999، والذي استولى عليه جيش ألفونسو السادس سنة 1085 ثم منحه لفرسان القديس يوحنا ليتم تحويله إلى كنيسة “نور المسيح”، قبل أن يصبح مزارا سياحيا.
لماذا لا يتحدثون عن مئات المساجد في الجزائر التي دمرها الاستعمار الفرنسي الذي دام 132 سنة؟ وحوالي 300 مسجد حولت إلى كنائس، لعل أشهرها “جامع كتشاوة” الذي بُني عام 1792 في العهد العثماني، وهو تحفة معمارية تركية فريدة من نوعها، حوّلها الدوق دو روفيغو إلى كنيسة تحت إمرة قائد الحملة الفرنسية دي بولينياك. فأخرج جميع المصاحف إلى ساحة الماعز المقابلة، التي حملت لاحقا اسم ساحة الشهداء، وأحرقها عن بكرة أبيها، كما عمد إلى قتل 4 آلاف مسلم اعتصموا في المسجد، اعتراضا على قرار تحويله إلى كنيسة، قبل أن يحوّل الجامع إلى إسطبل للخيول. ولم يكن للجزائريين أن يسترجعوا مسجدهم إلا بعد ثورة عارمة واستقلال وطني عام 1962.
وهناك أمثلة كثيرة جدا في العالم العربي والإسلامي، عن المساجد التي تحولت إلى كنائس، مثل مسجد عمرو بن العاص، ثاني مسجد في مصر، أنشأه المسلمون بعد فتح المدينة عام 642 على طراز جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، والذي تحول لكنيسة أكثر من مرة. و جامع إشبيلية، الذي كان آية في الجمال العمراني الذي يعكس الفن الإسلامي بتلك الحقبة، والذي تم تحويله إلى كنيسة ماريا.
في الواقع، تعتبر مسألة تحويل دور العبادة من دين إلى آخر، إجراء طبيعي وتقليدي مارسته مختلف الأديان والحكومات منذ زمن بعيد، فصفحات التاريخ تزخر بمئات النماذج لمساجد تحولت إلى كنائس والعكس، حيث تفرض القوة المنتصرة أو المسيطرة على الوضع هويتها على ما في حوزتها من معالم وكيانات، وهو أمر ما زالت أصداؤه تخيم على الأجواء حتى اليوم.
قانون العدل وقانون الظلم
لكن الذي يُحدث الفرق في عملية تحويل المساجد إلى كنائس والكنائس إلى مساجد، هو مسألة الحق والباطل، ومسألة القانون العادل والقانون الظالم، والقوة العادلة والقوة الظالمة، فمن حق بعض الدول عدلا وقانونا ومنطقا وتاريخا أن تسترجع أملاكها، وتعطيها الصبغة الأحق بها، كما ليس من حق دول أن تسطو على أملاك غيرها وتغير من ملامحها وهويتها أو تهين رموزها على هواها.
لقد ظلت المساجد في عالمنا العربي والإسلامي تهدم وتحرق وتدمر وتنتهك حرماتها، لأسباب عدة لا يتسع المجال لذكرها، لكننا لم نسمع – للأسف- عن أصوات تطالب، على الأقل باسم التراث الإنساني، بحمايتها وصونها.
أما المساجد في الغرب فلها ما لها وعليها ما عليها، فقد ظل مسجد قرطبة مثلا في قبضة الكنيسة الكاثوليكية ومحرما على المسلمين دخوله، منذ 1236 وحتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث سلم عمدة قرطبة خوليو أنغويتا، الملقب بالخليفة الأحمر، مفاتيح الجامع للجمعية الإسلامية عام 1981، وسمح للمسلمين لأول مرة برفع الأذان وأداء صلاة العيد.
كما أن كثيرا من المساجد التي أقيمت في الغرب، تم بناؤها على أنقاض كنائس مهجورة، أو معابد لم يعد أحد يوليها أي اهتمام. ثم تأتي إحدى الدول وتعترض وفي بيان رسمي على بث برنامج تلفزيوني ينقل تلاوات للقرآن من داخل آيا صوفيا.