في سُبُلِ المتقين ومدارج السالكين، الصحابي أبي بن كعب بدري من بني مالك بن النجار من الخزرج، كاتب وحي رسول الله ﷺ، ومن كتّاب كتب النبي ﷺ للقبائل، ومقرئ الوفود القرآن في زمن رسول الله، عالم الحفّاظ، وحافظ العلماء، وسيد القرّاء، وحافظ كلام الرحمن، أبو منذر الأنصاري، النَّجَاري، المقرئ، البدري االكريم، الأريب الأديب النجيب.
اسم أبي بن كعب ونسبه
أبي بن كعب (رضي الله عنه) ينحدر من نسب عريق وأصل فتيق، فهو زاكي الأرومة، أصيل السنخ، مصفى الجبلة، رحب المحلة، قوي الأساس، فهو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، ينتهي نسبه إلى بني النجار، وهم أخوالُ النَّبِيِّ ﷺ.
وأمه صهيلة بنت الأسود بن حرام بن عمرو من بني مالك بن النجار، فأبوه وأمه من بني النجار، وهم خير دور الأنصار كما قال رسول الله ﷺ: (خير دور الأنصار بنو النجار).
إسلام أبي بن كعب وخلقُهُ
بعد بيعة العقبة الأولى وقبل الهجرة النبوية بسنتين أرسل رسول الله ﷺ، مع من بايع من أهل المدينة مصعب بن عمير (رضي الله عنه)، يعلمهم الإسلام، ويدعوهم له، ويفقههم في الدين، فنزل مصعب في المدينة على أسعد بن زرارة، وفي هذه الأثناء أسلم أبي بن كعب (رضي الله عنه)، وانصرف إلى قراءة القرآن ودراسته.
واستدار العام، ورجع مصعب إلى مكة، وجاء الموسم، واستعد الحجاج، وتهيأ أبي (رضي الله عنه) للحج إذ كانت نفسه تتوق لرؤية رسول الله ﷺ، وفي الموسم واعد رسول الله ﷺ مسلمي المدينة في العقبة، من أوسط أيام التشريق ليلاً بعد الثلث منه، وتم اللقاء، وكانت بيعة العقبة الثانية، وهي بيعة الحرب، وكان الأنصار ثلاثة وسبعين رجلاً، منهم اثنان وستون من الخزرج من بينهم أبي بن كعب (رضي الله عنه)، وأحد عشر من الأوس، ومع الرجال امرأتان من الخزرج.
وغمرت الفرحة قلب أبي (رضي الله عنه) بلقائه مع رسول الله ﷺ، وشعر بالسعادة، ولم يلبث الركب أن ارتحل، وسار معه أبي (رضي الله عنه).
ولما وصل رسول الله ﷺ، إلى المدينة مهاجراً، نزل الرسول ﷺ، في دار أبي أيوب الأنصاري، خالد بن زيد، وهو من بني النجار أيضاً، وكان أبي (رضي الله عنه) يتردد على رسول الله ﷺ، شوقاً ومحبة، ولكتابة الوحي، ولسماع القرآن منه، وكان القرب يساعده على ذلك.
وأما خُلقه (رضي الله عنه)، فقد كان رجلاً كريم الأخلاق، سمح النفس يألف ويُؤلف، يحب معالي الأمور ويحافظ على العهود، جريئاً في الحق، صادعاً به، ينهى عن المنكر ولا يرضى به، مع التواضع الجم وعدم الترفع على المسلمين.
مكانة أبي بن كعب
آخى رسول الله، بين أبي بن كعب وبين طلحة بن عبيد الله (رضي الله عنهم) أحد المبشرين بالجنة، وهو من سادات تيم، وأشراف قريش، وقيل: بل بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وهو أيضاً من المبشرين بالجنة. أقرأ رسول الله ﷺ أبياً القرآن وروى أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول الله ﷺ دعا أبي بن كعب (رضي الله عنه) فقال: إن الله تبارك وتعالى، أمرني أن أقرأ عليك، قال: الله سماني لك؟ قال: الله سماك لي قال: فجعل أبي يبكي.
ويروى عن أبي بن كعب (رضي الله عنه) أنه كان يختم القرآن في ثمان ليال، وكان تميم الداري يختمه في سبع. ولما سأل النبي أبياً عن أي آية في القرآن أعظم، فقال أبي (رضي الله عنه): ٍ[الله لا إله إلا هو الحي القيوم{ ضرب النبي ﷺ في صدره، وقال : (ليهنك العلم أبا المنذر].
مناقب أبي بن كعب وفضائله
كتابته الوحي والرسائل
يقول الحافظ ابن عبد البر (رحمه الله): كان أبي بن كعب (رضي الله عنه) ممن كتب لرسول الله ﷺ الوحي قبل زيد بن ثابت ومعه أيضاً، وكان زيد (رضي الله عنه) ألزم الصحابة لكتاب الوحي، وكان يكتب كثيراً من الرسائل، وكان أبي وزيد يكتبان الوحي بين يدي رسول الله ﷺ.
وكون زيد بن ثابت (رضي الله عنه) ألزم الصحابة لكتابة الوحي بسبب صغر سنه، وتفرغه لهذا العمل، وقلة مشاغله وأعماله، فلذلك امتاز بهذه الميزة العظيمة، فإذا افتقد النبي ﷺ أبياً دعا مكانه زيداً ليكتب، وفي هذا يقول ابن سعد: وكان أبي (رضي الله عنه) إذا لم يحضر دعا رسول الله ﷺ زيد بن ثابت فكتب، فكان أبي وزيد يكتبان الوحي بين يديه، ويكتبان كتبه إلى الناس، وما يقطع، وغير ذلك.
فهذه مزيةً عظيمة لأبي (رضي الله عنه)؛ إذ أن النبي ﷺ قربه إليه، وائتمنه على المخاطبات، وجعله المقدم في ذلك، ومن خواص كتابه، فيكتب ما ينزل من القرآن الكريم، كما يكتب له الرسائل إلى الناس. وامتاز زيد بن ثابت (رضي الله عنه) بكتابته الكثيرة للقرآن، بينما امتاز أبي ابن كعب (رضي الله عنه) بكتابته الرسائل والمخاطبات أكثر من غيره، فقد كانت كثير من الرسائل التي أرسلها النبي ﷺ بخط أبي (رضي الله عنه).
جمع القرآن
كان أبي بن كعب (رضي الله عنه) مشاركاً في أمور الحياة العامة، عوناً للصحابة على النفع والخير، وكان له دور أساسي في عملية جمع القرآن الكريم، التي هي من أعظم الأعمال التي اهتم الصحابة بها، وتسابقوا إلى إكمالها وإتمامها، حتى حفظ الله تعالى القرآن الكريم لنا على أيديهم، فكان من حفظ الله للقرآن هو تيسير جمعه في الصحف كاملاً، وقد حصلت عدة عمليات لجمع القرآن، وأولها جمعه في زمن أبي بكر الصديق(رضي الله عنه)، وكان رئيس الجماعة المكلفة بهذا الجمع زيد ابن ثابت (رضي الله عنه)، ويساعده في ذلك أبي بن كعب، وعمر ابن الخطاب، وعمرو بن العاص (رضي الله عنهم)، وغيرهم.
وكان أبي (رضي الله عنه) هو المملي عليهم، وتم الجمع الثاني للقرآن في عهد عثمان (رضي الله عنه)، وكان أبي أحد الفائزين بهذا العمل العظيم رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن القرآن والإسلام خير جزاء.
وإن لاختيار أبي بن كعب (رضي الله عنه) لجمع القرآن في زمن أبي بكر، وفي زمن عثمان بن عفان (رضي الله عنهم) أسباباً عديدة :
– منها كونه أقرأ الصحابة للقرآن الكريم، كما شهد له النبي ﷺ بذلك حيث قال: (وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب).
– منها أمر النبي ﷺ بأخذ القراءة عنه، إذ قال: استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.
– منها أنه مارس القراءة في عهد النبي ﷺ.
عبادته وورعه
وقد كان النبيُّ ﷺ القدوة الحسنة لأصحابه في هذا، فكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه فاقتدى الصحابة رضوان الله عليهم به، فكانوا يعكفون على عبادة الله، وكان أبي بن كعب (رضي الله عنه) أحد الصحابة الذين امتلأت قلوبهم بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله، فأكثر من العبادة والعلم والتعليم، فقد كانت محبة النبيﷺ هي الحافز الأول على العبادة، فهي المنزلة التي يتنافس بها المتنافسون وإليها يشخص العاملون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، والشفاء الذي مَنْ عَدِمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال.
وقد كان لأبي حظ وافر من محبة النبي والصلاة عليه، فقد ورد عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام، فقال: يا أيها الناس، اذكروا الله ، اذكروا الله. جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
قال أبي بن كعب : قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟
قال: ما شئت. قلت: الربع ؟
قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير .
قلت: النصف؟
قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
ومن عبادته رضي الله عنه كثرة الصلاة، فقد كان محباً للصلاة مكثراً منها، وحقَّ له ذلك؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ويها يناجي مولاه، وقد قام رضي الله عنه ببناء مسجد لهذا الغرض، وسمي مسجد أبي بن كعب، وكان محله على يمين الخارج من درب البقيع.
وكان (رضي الله عنه) يحب العبادة ويكثر منها، ولكنه حريص على نفع المسلمين، وهو يعلم كل العلم أن العمل ذا النفع المتعدي خير من العمل ذي النفع القاصر، فلما احتاج الناس إليه وإلى علمه ترك العبادة، والتفت إلى ما هو أهم من العبادة، وأعظم أجراً، ألا وهو تعليم الناس العلم. وفي هذا يقول أبو العالية (رضي الله عنه): كان أبي صاحب عبادة، فلما احتاج الناس إليه، ترك العبادة، وجلس للقوم.
وفاة أبي بن كعب رضي الله عنه
وبعد ما أمضى سيدنا أبي بن كعب (رضي الله عنه) حياة مليئة بالخيرات والبركات، فانتقل إلى جوار ربه، وقد اختلف في وفاته على قولين، القول الأول: أنه توفي في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، قال محمد بن عمر الواقدي: تدل أحاديث على وفاة أبي ابن كعب (رضي الله عنه) في خلافة عمر بن الخطاب، ورأيتُ أهله وغيرهم يقولون: مات في سنة اثنتين وعشرين بالمدينة، وأن عمر قال: اليوم مات سيد المسلمين.
وقال الذهبي (رحمه الله): والظاهر وفاة أبي في زمن عمر، حتى إن الهيثم بن عدي وغيره ذكرا موته سنة تسع عشرة.