عني الأقدمون بالكتب عناية كبرى جعلتهم يحرصون على اقتنائها مهما عظم ثمنها وينشئون لها الخزائن وييسرون الاطلاع عليها لمن أراد، حتى أوقف بعضهم خزائنه لخدمة طلبة العلم وبعضهم أوقف كتابا أو أكثر ولذلك نجد كثيرا من المخطوطات التي وصلتنا موقوفة، ونظرا لأن الكتب هي “آلة العلم” فقد كتب بعضهم في الآداب الواجب اتباعها عند التعامل معها، والبعض الآخر أفاض في مدح الكتب وفضائلها.
تحدث الأقدمون عن شمائل الكتب منذ وقت مبكر، ومنهم ابن النديم الذي تحدث في الباب الأول من (الفهرست) عن “فضائل الكتب” وذكر أقوال العجم في ذلك وأتبعها بقول ابن نطاحة “الكتاب هو المسامر الذي لا يبتدئك في حال شغلك، ولا يدعوك في وقت نشاطك ولا يحوجك إلى التجمل له، وهو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك والرفيق الذي لا يملك والناصح الذي لا يستزلك” (1)
في مدح الكتب وشمائلها
ومن هؤلاء الأقدمون، الذين تحدثوا عن أدب التعامل مع الكتب، الجاحظ الذي وضع رسالة بعنوان (في مدح الكتب والحث على جمعها) حققها ونشرها الأستاذ إبراهيم السامرائي في مجلة المجمع العلمي العراقي عام 1961، وسبب وضعها أن أحدهم عاب عليه حبه لكتبه فأجابه بأسباب ذلك، ومنها أنه مع صغر حجمه يحوي العلوم المفيدة وأخبار القرون السالفة، والبلاد المترامية، “وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك .. وإن عُزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك.. ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ، والنظر إلى المارة مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ومن فضول النظر ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك”، وهكذا عد الجاحظ الكتاب وسيلة من وسائل التهذيب الخلقي والاجتماعي فضلا عن وظائفه العلمية(2).
عاد الجاحظ إلى مناقشة فضائل الكتاب في فصل “محاسن الكتابة والكتب” ضمن (المحاسن والأضداد)، وتناول خلاله علاقة العرب وغيرهم من الأمم بالكتاب، ومما قاله: إن العجم دونوا مآثرهم بالبنيان والمدن والحصون، وشاركتهم العرب البنيان وانفردت بالكتب والأخبار والشعر، وتدوين الكتب أفضل من البنيان كما يرجح “لأن البناء لا محالة يدرس، وتعفى رسومه، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن، ومن أمة إلى أمة، فهو أبدا جديد، والناظر فيه مستفيد”.(3)
ومنهم الخطيب البغدادي الذي كتب بابا بعنوان “في فضل الكتب وبيان منافعها” في كتابه (تقييد العلم) ذهب فيه أن التعلم من الكتاب يفضل التعلم على يد واضعه، لأن التلاقي ربما يحدث في النفس كبرا أو تفاخرا أو حبا للرئاسة، ولهذا فإن الكتاب يفضل مصنفه في بضع أمور منها ” منها: أن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، وموجود في كل زمان مع تفاوت الأعصار وبعد ما بين الأمصار وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسئلة والجواب وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره”(4)
آداب التعامل مع الكتب
اختص الأقدمون الكتب بآداب ينبغي الالتزام بها حين التعامل مع الكتب، وهي تذكر عادة ضمن كتب فضائل العلم، وآداب العالم والمتعلم، وهناك مصنفات أتت على جملة الآداب وجلها موجه إلى طالب العلم لأن العالم يفترض فيه تثمينه للكتاب وتنزهه عن اقتراف ما يشينه، ومن بين هذه الآداب نتخير الآتي:
- ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب التي يحتاج إليها في العلوم المفيدة، حفظا للوقت بدلا من الانشغال بالنسخ لأن الاشتغال بالعلم أهم من النسخ، لكن لا يجعل غايته من العلم تحصيل الكتب دون أن يعي ما بها.
- يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر منه بها، وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة الإعارة، والاستحباب هو الأصح المختار لما فيه من الإعانة على العلم، مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر.
- إذا استعار أحدهم كتابا إذا استعار كتابا فلا يبطئ به من غير حاجة، وإذا طلبه المالك فيحرم عليه حبسه، ويصير غاصبا له، وقد جاء في ذم الإبطاء برد الكتب المستعارة عن السلف أشياء كثيرة منها عن الزهري: إياك وغلول الكتب، وهو حبسها عن أصحابها.
- لا يجوز للمستعير أن يصلح كتاب غيره بغير إذن صاحبه، فإن كان مغلوطا أو ملحونا فليصلحه بخط حسن، ولا يكتب شيئا في بياض فواتحه أو خواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه، ولا يعيره غيره، ولا يودعه لغير ضرورة، ولا ينسخ منه شيئا إلا بإذن صاحبه.
- إذا طالع الكتاب فلا يضعه مفروشا على الأرض، بل يجعله مرتفعا، وإذا وضع الكتب مصفوفة فلتكن على شيء مرتفع غير الأرض لئلا تندى فتبلى، ويراعى الأدب في وضعها باعتبار علومها، فيضع الأشرف أعلى الكل، فإن استوت كتب في فن فليراع شرف المصنف فيجعله أعلى، وليجعل المصحف الكريم أعلى الكل، والأولى أن يصنع رفا في الحائط لوضع الكتب عليها.
- ويحسن تجليد الكتب ووضع أسمائها عليها في حرف، وأن تصف في وضع حسن كل مجلد يلي الآخر بلا اعوجاج أو ميل، ويجب تنزيه الكتاب بأن لا يجعله ” خزانة للكراريس وغيرها، ولا مخدة، ولا مروحة، ولا مستندا، ولا متكئا، ولا مقتلة للبق، ولا يطوي حاشية الورقة وزاويتها كما يفعله كثير من الجهلة، وإذا ظفر فلا يكبس ظفره بحيث يهشم الورقة ولو مآلا” كما نص على ذلك العلموي.
- إذا نسخ شيئًا من كتب العلم الشرعية ينبغي أن يكون على طهارة، نظيف البدن والثياب، “ويبتدئ كل كتاب بكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كان المصنف تركها كتابة فليكتبها هو، ثم ليكتب قال الشيخ، أو قال المصنف، ثم يشرع في كتابة ما صنفه المصنف، وإذا فرغ من كتابة الكتاب أو الجزء فليختم الكتابة بحمد الله والصلاة على رسول الله، وليختم بقوله: آخر الجزء الأول أو الثاني مثلا ويتلوه كذا وكذا” مما ييسر متابعة الكتاب.
- لا ينبغي الاشتغال بالمبالغة في حسن الخط، وإنما يهتم بصحته وتصحيحه، وأن يجتنب خلط الحروف التي ينبغي تفرقتها، وسرعة الكتابة مع بعثرة الحروف، ولا يكتب الكتابة الدقيقة؛ لأنه ربما لم ينتفع به وقت حاجة الانتفاع به من كبر وضعف بصر، ويجوز ذلك إن عجز عن ثمن ورق، أو حمله في سفر، فيكون معه خفيف المحمل.
- إن كان ناسخا لكتاب عليه مقابلة كتابه بأصل صحيح موثوق به، ويتعين عليه ذلك، وإذا صحح الكتاب بالمقابلة على أصل صحيح أو على شيخ، فينبغي أن يعجم المعجم، ويشكل المُشكِل، ويضبط الملتبس، ويتفقد مواضع التصحيف صيانة للفهم من الانحراف.
- إذا وقع في الكتاب زيادة لفظ أو نحوه، أو كتب فيه شيء على غير وجهه تخير فيه بين ثلاثة أمور؛ الأول: الكشط بأداة حادة، وغيره أولى منه، لكن هو أولى في إزالة نقطة أو علامة إعرابية زائدة، الثاني: المحو -إذا أمكن-وهو أولى من الكشط، الثالث: الضرب عليه [وضع خط أو نحوه على الكلمة] وهو أجود من الكشط والمحو.
- وينبغي أن يفصل بين كل كلامين أو حديثين بدائرة، أو قلم غليظ، ولا يصل الكتابة كلها على طريقة واحدة؛ لما فيه من عسر استخراج المقصود، ومن اعتاد أن يكتب بعض الألفاظ مختصرة فلا بأس وينبغي له أن ينبه على ذلك في مفتتح الكتاب ليفهم القارئ مراده، ولا بأس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول ونحو ذلك باللون الأحمر؛ فإنه أظهر في البيان وفي فواصل الكلام، ونحو ذلك مما هو تيسير للقارئ، ودفع به عن الخلط والخطأ.
- ولا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه، فإن كان لا يملكه لا يجوز له ذلك، ولا يكتب إلا التنبيهات المهمة والفوائد المتعلقة بذلك الكتاب أو ينبه على إشكال أو احتراز، ولا ينبغي له تسويد صفحات الكتاب بذكر المسائل الغريبة وكثرة الحواشي التي تحول دون متابعة القراءة (5) .
وإذا أمعنا النظر في تلك القائمة المطولة من الآداب وجدناها تدور حول: العناية بجمع الكتب، وأدب إعارتها واستعارتها، وترتيب المكتبة وصيانتها، والعناية بضبط الكتب وتصحيحها، وأدب نسخها وأدب مطالعتها، وهي في مجموعها تشكل منهجا شاملا لكيفية التعامل مع الكتب في سائر الأحوال وهي توحي بتبجيل القوم كتبهم وتنزيهم لها من الأوساخ والكشط ونحوه وهو مستمد من إجلالهم للعلم وكل ما يرتبط به من أدوات.