خاض بعض الكبار المحدثين في قطع الحكم بتحديد أصح الأسانيد في الحديث مطلقا، فجاءت أقوالهم متابينة ومتعارضة، حيث رأى الإمامان ابن راهويه وأحمد أن “أصح الأسانيد كلها: الزهري عن سالم عن أبيه”[1]. وقال عمرو بن علي الفلاس وابن المديني: “أصح الأسانيد: محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي”[2] بينما ذهب البخاري إلى أن “أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر”[3]، وقيل غير ذلك من الأقوال المتعارضة.

لكن الذي يميل إليه ابن الصلاح أن الأولى “الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق”[4] أو الأولى التعبير بـ “مِنْ أصح الأسانيد دون الإطلاق، أو تقييد أصحية الأسانيد بالأشخاص”.

يقول الحاكم: ينبغي تخصيص القول في أصح الأسانيد بصحابي أو بلد مخصوص، بأن يقال: أصح إسناد فلان أو الفلانيين كذا ولا يعمم، قال: فأصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم…ألخ،[5] فيصح أيضا قطع الحكم بأصح الأسانيد والأحاديث بالنسبة إلى الأمصار دون الخلاف الملموس.

أصح الأسانيد حديث أهل الحجاز

قد تظاهرت أقوال أرباب المحدثين على أن أصح الأحاديث حديث أهل الحجاز، إذ روايات السنن النبوية منبعها من بقاع الحرمين؛ مدارس الصحابة الأمناء المبلغين عن الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. ولم يجد الانحراف الفكري والأخلاقي في تلك البقعة مأوى ولا منزلا طوال القرون المفضلة كما وجد في الأمصار الأخرى، إذ الإنحراف بواب للتخبط في كثير من الروايات، وإنما سيمة أهل الحجاز في ذلك الوقت: العلم، والتدين الصحيح، والبعد عن الزيغ.

وقال مسعر: قلت لحبيب بن أبي ثابت: أيما أعلم بالسنة أهل الحجاز أم أهل العراق؟ فقال: بل أهل الحجاز.[6]

يقول الخطيب: “أصحُّ طرق السنن: ما يرويه أهل الحرمين – مكة والمدينة –، فإن التدليسَ فيهم قليل. والاشتهارَ بالكذبِ ووضعَ الحديث عندهم عزيز”[7]

قال أبو العباس ابن تيمية: “اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصحَّ الأحاديث: أحاديث أهلُ المدينة”[8]

ولذا لم يخص أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أهل بلدة بالذكر لما أراد جمع السنة غير أهل المدينة، وقد كان يراسل الأمصار ليعلّم أهلها، وعندما يراسل أهل المدينة فإنه يطلب منهم السنة النبوية حتى يبعث بها إلى بقية البلدان الإسلامية.

يقول مالك: “كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى[9]” ثقة بمروياتهم أكثر من غيرهم.

 يقول ابن المبارك: حديث أهل المدينة أصح وإسنادهم أقرب[10]

 ولأجل هذه الأصحية “كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء أهل الشام”[11]

حديث أهل اليمن يضاهي حديث أهل الحجاز مع قلته

حديث أهل اليمن يغلب عليه السلامة من العلل والطعن، ولكن لم يكثر فيهم الروايات لإيثارهم الجهاد والعبادة والنزوح في الأمصار الإسلامية.

وقال ابن حبان رحمه الله: وإنما وقع جلة أهل اليمن من التابعين بالشام ومصر فسكنوها ثم استوطنوها حتى لقد نزل بحمص وحدها… من اليمن زهاء ألف نفس، إلا أن أكثرهم اشتغلوا بالغزوات والعبادات فلم يظهر كثير علم إذا هم أهل سلامة وخير، كانوا لا يشتغلون بما يؤدي التنوق من العلم وآثروا العبادة عليه.[12]

يقول الخطيب: “ولأهلِ اليمن روايات جَيّدة وطُرُقٌ صحيحة، ومَرجِعُها إلى الحجاز.. إلا أنها قليلة”.[13]

وأصح أسانيد اليمنيين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة[14]

حديث أهل البصرة معظمه مقبول

كان أهل البصرة أنعم النظر في علم علل الحديث من غيرهم، وأشد تمحيص لأحوال الرواة بسبب ظهور الفرق المبتدعة في أرضهم؛ ووجود بعض من وسم بالتدليس في صفوف الرواة، ومن ثم صحت لهم كثيرة من الروايات بأسانيد نظيفة مما تدل على إمامتهم وتقدمهم في صناعة علم الحديث.

ويقول الخطيب: ” وأما أهل البصرة فلهم من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة ما ليس لغيرهم، مع إكثارهم وانتشار رواياتهم”.[15]

قال أبو العباس ابن تيمية: “اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصحَّ الأحاديث: أحاديث أهلُ المدينة، ثم أحاديث أهل البصرة”[16]

حديث أهل الشام معظمه مقاطيع

كان حديث أهل الشام موسوما بالإرسال في الغالب، فحلقات سلسلة رواتهم يكتنفها الانقطاع، وإنما كانوا يلتفتون إلى الصحابة أو المتون في رواياتهم بلا ذكر الوسائط إلى أن جاء إليهم الإمام الزهري ونبههم على خطورة الأمر فقال: «يا أهل الشام، ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزمَّة ولا خطم؟ وقال الوليد بن مسلم: «فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ».[17]

وقال الإسماعيلي: “فإن عادة الشاميين والمصريين جرت على ذكر الخبر فيما يروونه لايطوونه طي أهل العراق”[18] ويعلق ابن رجب على كلام الإسماعيلى أنه” يشير إلى أن الشاميين والمصريين يصرحون بالتحديث فى رواياتهم ولا يكون الإسناد متصلا بالسماع”[19]

وتساهل أهل الشام وأهل مصر في إطلاق لفظة التحديث أو الإخبار على حديث منقطع السند مشكل في الرواية، لأنه يسبب اللبس والخلط بين السند المتصل وغير المتصل، ومن أجل ذلك جعل العلماء علة الإرسال من سيمة حديث أهل الشام كي يكون الطالب على بينة ولا يغتر بمجرد ظاهر السند. 

ويقول الخطيب:” وحديث الشاميين أكثره مراسيل ومقاطيع. وما اتّصَل منه مما اسنده الثِّقاتُ، فإنه صالح. والغالب عليه ما يتعلّق بالمواعظ وأحاديث الرَّغائِب”[20]

وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية:” وأما أحاديث أهل الشام، فهي دون ذلك – يعنى أهل المدينة والبصرة- فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء.

وإن أصح أسانيد حديث الشاميين: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن الصحابة[21]

حديث أهل مصر معظمه مقبول وقليل

عند الموازنة بين الأصقاع الإسلامية في الروايات فإن نصيب مصر منها قليل، ليس مثل أهل الحجاز والعراق في الكثرة، إضافة إلى أن حديثهم يقل فيه الدغل والعلل إلا عوائدهم في الخلط بين الحديث المتصل والمنقطع بصيغة التحديث كما سبق من كلام الإسماعيلى، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في بلاد مصر: عمرو بن العاص وابنه عبد الله وعقبة ابن عامر رضي الله عنهم، ثم انتهت رياسة العلم إلى يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، وكان شيخا للديار المصرية كلها ومفتيها بلا نزاع.

قال الخطيب:” وللمصرييّن روايات مستقيمة، إلا أنها ليست بالكثيرة”[22] 

وأصح أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجهني[23]

حديث أهل الكوفة معظمه مردود

كانت الكوفة أكثر البلاد الإسلامية تعج بمرويات واهية وموضوعة، لأنها مدينة حافلة بالفرق المبتدعة والكذبة والمدلسون لا نظير لهم في سائر الأمصار الإسلامية، ولا يكاد يثق العلماء بحديث أهلها إلا بعد غربلة شديدة مع كثرة الروايات المتداولة فيها.

وقال أبو العباس ابن تيمية: “وأما أهل الكوفة، فلم يكن الكذب في أهل بلدٍ أكثر منه فيهم. ففي زمن التابعين، كان بها خلقٌ كثيرون، مِنهم معرفون بالكذب، لا سيما الشيعة فإنهم أكثر الطوائف كَذِباً باتفاق أهل العِلم. ولأجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب”[24]

وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي: “لأهل الكوفة من الضعفاء ما لا يُمكن عدُّهم”.[25]

ثم ذكر عن محمد بن إدريس أنه قال: «قال أهل ‏المدينة: وضعنا سبعين حديثاً نجرّب بها أهل العراق، فبعثنا إلى الكوفة والبصرة. فأهل البصرة ردوها إلينا ولم يقبلوها، ‏وقالوا هذه كلها موضوعة. وأهل الكوفة ردوها إلينا، وقد وضعوا لكل حديث أسانيد!!»[26]

والتدليس في أهل الكوفة مستفحل حتى روي عن يزيد بن هارون الواسطي أنه قال:” قدمت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا وهو يدلس إلا مسعر بن كدام وشريكاً”[27]

وقال الحاكم:”أكثر المحدثين تدليساً أهل الكوفة”[28]

قيل لعبد الرحمن بن مهدي: أي الحديث أصح؟

قال: حديث أهل الحجاز.

قيل له: ثم من؟

قال: حديث أهل البصرة.

قيل: ثم من؟

قال: حديث أهل الكوفة.

قالوا: فالشام؟ قال: فنفض يده[29]

ولا يلزم من هذا الطرح المفاضلة بين أحاديث المدن على حدة، وإنه قد يوجد بعض أحاديث أهل الكوفة مثلا أعلى الدرجة في القبول من حديث أهل الحجاز، ولكن يبقى الحكم بالأصحية على سبيل العموم لأهل الحجاز. 


[1] معرفة أنواع علوم الحديث. ص:15

[2] المصدر السابق

[3] المصدر السابق

[4] المصدر السابق

[5] معرفة علوم الحديث. ص 54

[6] تدريب الراوى 1/89

[7] الجامع لأخلاق الراوي 2/2876

[8] مجموع الفتاوى 20/316

[9] فوائد ابن منده برقم (67)

[10] تدريب الراوى 1/89

[11] مجموع الفتاوى. 20/319

[12] مشاهير علماء الأمصار. ص:201

[13] الجامع لأخلاق الراوي 2/2876

[14] فتح الباقي بشرح ألفية العراقي 1/105

[15] الجامع لأخلاق الراوي 2/2876

[16]مجموع الفتاوى 20/316

[17] سير أعلام النبلاء

[18] فتح البارى 3/ 53 – 45

[19] المصدر السابق

[20] الجامع لأخلاق الراوي 2/287

[21] فتح الباقي بشرح ألفية العراقي 1/105

[22] الجامع لأخلاق الراوي 2/288

[23] فتح الباقي بشرح ألفية العراقي 1/105

[24] المصدر السابق

[25] الإرشاد 1|420

[26] المصدر السابق

[27] حلية الأولياء (10390) وهذا الأثر فيه مقال

[28] في معرفة علوم الحديث. ص:111

[29] الجامع لأخلاق الراوي 2/288