لا تخلو الأرض من أمة تكون قاطرة الأمم في التقدم العلمي، والنهوض الحضاري. ولا تخلو أمة من حكمة وفلسفة وأدب، سواء أكانت عميقة أم سطحية، مدونة أو متناقلة شفاهة.

والواسطة للتعرف على علوم الأمم وآدابها وفنونها هي ترجمتها، والانتفاع بها، والإضافة عليها، أو تقويمها. فعلوم الأمم ميراث للبشرية جمعاء، وحق الانتفاع بها مكفول للجميع؛ فتقدم أي أمة لا يستمر للأبد، وكذلك انحطاطها، وتقدم أي أمة ونهوضها -في غالبه- ينبني على ما استفادته من تجارب الأمم السابقة عليها.

وأمة العرب لم تكن بدعًا في ذلك؛ إذ إنها في سبيل نهضتها العلمية وتثبيت أركان دولتها اتجهت إلى الترجمة، ونقل علوم الأمم السالفة ذات النهضات العلمية المشهود لها.

وأمر الترجمة كان ذا بال منذ بزوغ فجر دولة الإسلام بالمدينة المنورة؛ فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -- أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ.

يقول زيد: حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ -- كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ([1]).

وقد علل ذلك رسول الله -- في حديث آخر عندما قال لزيد: “تعلم كتاب اليهود؛ فإني لا آمنهم([2]).

ولم يتوقف الأمر عند تعلم العبرية، بل طلب -- منه تعلم لغة أخرى؛ فعن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله -: “تحسن السريانية إنها تأتيني كتب“؟

قلت: لا.

قال: “فتعلمها“.

فتعلمتها في سبعة عشر يومًا([3]).

وطلب الترجمة هنا كان للأمور السياسية؛ حيث المراسلات والمكاتبات بين المصطفى والأمم الأخرى من غير العرب.

ولكن ما إن آلت مقاليد الحكم لبني أمية حتى ظهر من أمرائها وخلفائها من اتجه لترجمة العلوم مثل: الطب والكيمياء والفلك؛ كي تستفيد بها الأمة؛ فهذا خالد بن يزيد بن معاوية والذي يسمى حكيم آل مروان، والذي كان له همة ومحبة للعلوم، “خطر بباله الصنعة([4]) فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي.

وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة”([5]).

وكانت الدواوين بالشام بالرومية، وتولاها أبو ثابت سليمان بن سعد أيّام عبد الملك بن مروان فترجمها للعربيّة بعد أمر الخليفة، فكان “أوّل مسلم ولي الدواوين كلّها وحوّلها بالعربيّة”([6]).

وفي عهد عمر بن عبد العزيز تمت ترجمة بعض كتب الطب مثل: كتاب أهرن، والذي ترجمه ماسرجويه الطبيب البصري([7]).

وتوسع العباسيون في أمر الترجمة حتى إن جماعة من النقلة منهم: حُنين بن إسحاق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرة يرزقون فِي الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة([8]).

فأثمرت هذه الحركة العظيمة عن حضارة إسلامية عربية ساهمت في تقدم البشرية؛ إذ استفاد المسلمون من علوم سابقيهم، ثم ساروا بتلك العلوم أشواطًا بعيدة مهدت الطريق وفتحت المجالات للنهضة الأوروبية الحديثة، التي قامت على علوم المسلمين ونظرياتهم العلمية.

ثم دخل العرب في سبات عظيم، ولم يفيقوا إلا عندما طرق الغرب أبوابهم بالغزو، وخصوصًا بعد حملة نابليون على مصر والشام في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ إذ رأوا الفارق الكبير بين ما هم عليه وما عليه الفرنسيون.

لكن الغرب لم يمهلهم أو يترك لهم الفرصة للخروج من هذا السبات، فتكالبوا على بلدان العرب والمسلمين فاحتلوها إلا قليلاً منها، ومزقوا أوصالها، وفرضوا مناهجهم ونظرياتهم على العرب والمسلمين.

لكن الصراع كان عجيبًا؛ فالدول العربية والمسلمة سعت للاستقلال السياسي عن الغرب، لكنهم بقوا أسرى للاحتلال الفكري والثقافي.

وكل محاولة جادة للنهضة تقابل بمكر شديد لإحباطها من قِبل الغرب، وإذا لم يجْدِ المكر نفعًا تكون المواجهة المباشرة لإجهاض أي نهضة محتملة.

ورغم ذلك فقد كانت هناك جهود مخلصة من بعض الدول والمؤسسات لترجمة ما يمكن أن يكون نواة لتأسيس نهضة حديثة شاملة، لكن للأسف العقبات كثيرة، وغالب الترجمات اتجهت للفلسفات والأفكار والأدب، ولم تهتم بالترجمات العلمية التي يمكن للعرب والمسلمين أن ينهضوا من خلالها؛ إذ إنهم يملكون في الجانب الروحي والأخلاقي والفكري ما يميزهم عن غيرهم، بل إن ما يحتاجه الآخرون وما يفتقرون إليه لن يجدوه إلا عند العرب والمسلمين.

وأعظم حركة للترجمة في العصر الحديث اتجهت للأفلام والمسلسلات من شتى أنحاء العالم، فترجمنا -مثلاً- أفلام العنف والحركة التي اشتهر بها الأمريكان والهنود، وترجمنا أفلام الأطفال التي ينتجها اليابانيون.

ولا تتأخر الترجمات عن أحدث إنتاجهم، ويقوم على ذلك الدول والمؤسسات والأفراد الهواة، فما إن يُعرض الفيلم في البلد المنتج له حتى يتم ترجمته وإرفاق الترجمة مع نسخة الفيلم.

وقد تُرجمت مئات الآلاف من الأعمال الفنية، الغث منها والسمين دون تفرقة، وكانت كل هذه الأموال المنفقة والأوقات المهدرة للترفيه فقط لا أكثر، ولو أنفق ربعها أو نصفها لترجمة الكتب العلمية لكان الحال غير الحال.

لكن هذه الترجمات ترسخ للتبعية للغرب؛ إذ إنه يملك التقنيات المبهرة في صناعة الأفلام، وينفق عليها المليارات، ويستخدمها لتجميل وجهه، أو لإبراز صورة معينة يريد تصديرها عنه، أو لتشويه صورة من يريد تشويهه، ونحن نتلقى كل هذه الرسائل، ونتأثر بها.

ولو بقينا على هذه الحال فلن ننهض، وسنظل أسرى للغرب في رؤيته للحياة والكون، وستظل التبعية له هي مصيرنا المحتوم.


([1]) أخرجه البخاري في “الأحكام”، باب: “تَرْجَمَة الْحُكَّامِ، وَهَلْ يَجُوزُ ترْجُمَان وَاحِدٌ”، ح(7195).

([2]) أخرجه البيهقي في “السنن الكبرى”، (6/211).

([3]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(21627)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده صحيح إن كان ثابت بن عبيد سمع من مولاه زيد بن ثابت”.

([4]) أي: الكيمياء.

([5]) الفهرست لابن النديم، ص(303).

([6]) تاريخ دمشق لابن عساكر، (22/321).

([7]) انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص(243).

([8]) انظر: السابق، ص(30-31).