يقدم الدكتور مصطفى عليان في كتابه “معجم الخطاب القرآني في الدعاء” خريطة لآيات الدعاء في القرآن الكريم، ومنذ السطور الأولى يتضح أن الفرضية التي ينطلق منها المؤلف في هذا الكتاب القيّم تتمثل في “أن آيات الدعاء في القرآن الكريم، على الرغم من توزعها في سوَّره، تشكل نصاً متكاملاً في عناصره، متناسقاً في بنائيته، ذا خصائص أسلوبية، ومعالم جمالية في الألفاظ والجُمل والمشاهد”.

وسعياً إلى الكشف عن الهوية الخاصة لخريطة آيات الدعاء، قام الدكتور مصطفى عليان بمعالجة معجم ألفاظ الخطاب القرآني في الدعاء من خلال ثلاثة حقول لغوية، يتناول الحقل الأول: ألفاظ العقيدة والتوحيد (رب، ربنا، اللهم)، ويتناول الثاني: ألفاظ الخطاب والمحاورة (قال، دعا، نادى)، فيما يتناول الثالث: ألفاظ الطلب (الأمر، النهي، التمني)، وفي السطور التالية سنقدم نماذج متعددة على آيات الدعاء في القرآن الكريم.

ألفاظ العقيدة والتوحيد

إن البحث في المعجم القرآني الكريم في مجال العقيدة والتوحيد يكشف لنا عن عدد من الألفاظ والأساليب المتعقلة بالدعاء بصيغ مختلفة مثل (رب، ربنا، اللهم)، ولكننا عندما نمعن النظر في هذه الألفاظ نلاحظ أن  لفظ “الرب” يتصدر بنية الخطاب القرآني، فقد ورد مرات عديدة في دعاء الأنبياء والملائكة وحملة العرش والأولياء الصالحين، وقد افتُتح الخطاب القرآني في حقل الدعاء بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذه الآية تحمل دلالات عديدة منها المدبر والجابر والقائم على إصلاح شؤون خلقه.

ومهما يكن من أمر بخصوص تصدر لفظ ما دون لفظ وتعدد صيغ الاشتقاق، فإن كل ألفاظ العقيدة والتوحيد التي وردت في القرآن الكريم تكشف عن دلالة عميقة في المعجم القرآني الخاص بآيات الدعاء، كما أن كل لفظ له دور أساسي في فلسفة الدعاء ومناجاة رب العالمين (الله)، وبمجرد العودة إلى القرآن الكريم نكتشف أدلة عديدة على هذا الأمر من خلال دعوة الأنبياء لأقوامهم إلى توحيد الله.

وهكذا فإن لفظ “الرب” يأتي في سياق دعوة الأقوام إلى توحيد الربوبية والإلهية، ومن ذلك قول هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقول عيسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، وقول يوسف عليه السلام: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، وقول محمد عليه الصلاة والسلام: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

وإذا كان لفظ “الرب” قد تصدر ألفاظ العقيدة والتوحيد من ناحية الورود في المعجم القرآني، فإن الدعاء بلفظ “اللهم” كان قليلاً في القرآن الكريم، حيث ورد في آيات قرآنية محدودة إلا أنها كانت “جامعة لنماذج من الخطاب الإنساني في الدعاء المصدر بالربوبية، شاملة لاتجاهاته البنائية والأسلوبية”، وقد انتظمت فيها أربعة أساليب من الأساليب المصدر بذكر الربوبية، وهي: البوح بالطلب المباشر، والاستغناء بالتنزيه والحمد والثناء عن الطلب، والتوجيه التعليمي المصدر بالقول “قل اللهم”، وتكرار النداء بعد النداء.

وإذا أردنا أن نتأكد من شمولية تلك الآيات القرآنية المتعلقة بلفظ “اللهم” وأساليبها المتعددة، فعلينا أن نقرأ مثلاً دعاء عيسى عليه السلام: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، ودعاء محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، ودعاء أهل الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ودعاء أبي جهل المعبر عن حالة الكافرين: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

وقد أشار المؤلف في هذا المضمار إلى لطائف قرآنية جميلة بخصوص الفروق بين لفظ (الرب) ولفظ (اللهم)، فذهب إلى تساوي الدعاء المصدر بلفظ (رب) و(اللهم)، نظراً لأن “التوازن الصوتي بين الشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق ظاهرة واضحة في كل منهما”، مؤكداً أن التحليل الصوتي للفظ (اللهم) يعطي من حسن الإيقاع من ثلاث نواحٍ، وهي: الرقة، والجمع بين الهمس والجهر والتوسط بين الشدة والرخاء، ثم الترديد والترجيع.

ألفاظ الخطاب والمحاورة

وحين ننتقل إلى القسم الثاني من خريطة الخطاب القرآني في الدعاء المتمثل في ألفاظ الخطاب والمحاورة، نجد مجموعة من الألفاظ القرآنية تصور لنا حالة الداعي وموقفه في حالة الشدة والكرب مثل (قال، نادى، دعا)، ودعونا نبدأ بلفظ (قال) الذي يعتبر من أكثر المفردات تواتراً في نصوص الدعاء، فقد جاء هذا اللفظ بثلاث آليات أسلوبية، تتمثل الأولى في الآلية الإخبارية التوثيقية، ومن الأمثلة عليها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}، وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

أما الآلية الثانية (الآلية الطلبية) فتتميز بالإيجاز والتكثيف ومن أمثلة عليها قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، وقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، ويأتي الدعاء في الآلية الثالثة (الآلية الوصفية) مميزاً في بنيته ودلالته أيضاً ومن الأمثلة عليها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}، وقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.

أما لفظ (نادى) فتعكس دلالته في الدعاء اللين والمد والتطويل، والنداء هو الدعاء ولهذا جاء في الحديث: “هو أندى منك صوتاً”، وكلمة “أندى” تعكس ثلاث مستويات صوتية (أرفع وأعلى، أحسن وأعذب، أبعد مذهباً)، وقد جاء القرآن الكريم شاملاً لهذه الحالات الثلاث، فمن الأمثلة على المستوى الأول (النداء بالصوت الرفيع الجهير الشديد) قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}.

ومن الأمثلة على المستوى الثاني (نداوة الصوت وحسنه وعذوبته) قوله تعالى: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}، وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، وقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، أما المستوى الثالث (بعد مدى الصوت) فمن الأمثلة عليه قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.

وحين ننظر إلى لفظ (دعا) سنكتشف أنه لفظ محوري في حقل الدعاء في الخطاب القرآني، فالدعاء يتصل بالنداء اتصالاً ارتباطاً وثيقاً فيأتي في بعض المواضع القرآنية بمعنى النداء مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}، وقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، وقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، ويبدو أن الدعاء يأتي أيضاً بمعنى القول مثل قوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}، وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.

ومع ذلك، فقد جاء لفظ (دعا) دالاً على معنى الدعاء بشكل مباشر، ولعلنا يمكن أن نكتشف ذلك من آيات عديدة، مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقد كان الدعاء وسيبقى بوابة النجاة من متاعب الدنيا والآخرة بدليل قول الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.

وقبل أن ننهي الحديث عن الدعاء من المهم الإشارة إلى أن لفظ (ادعُ) يحمل مجموعة من “القيم العقدية التي تتعلق بالحركة النفسية الاستنباطية الداخلية للداعي”، أولها التضرع والخفية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وثانيها الخوف والطمع: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وثالثها الرغبة والرهبة: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.

ألفاظ الطلب

ولا تنحصر أساليب الدعاء في القرآن الكريم على ما سبق ذكره من الألفاظ، بل هناك أساليب أخرى تدخل تحت يافطة ألفاظ الطلب، وهي: الأمر والنهي والتمني، وإذا بدأنا بالنظر في أسلوب الطلب بلفظ الأمر سنجد أنه ورد كثيراً في القرآن الكريم من خلال أفعال عديدة مثل: (اجعل) و(اغفر) و(ارحم) و(هب)، وقد توصل المؤلف إلى أن هذه الأفعال “هي الحقول الأعلى نسبة في ترديد الداعي والأكثر حضوراً في إلحاح السائل، إذ المدار فيها هو غفران الله ورحمته، وتغيير الحال، وتحقيق الآمال الأخروية والدنيوية”.

وهكذا فإننا عندما نريد أن نقدم أمثلة قرآنية على أسلوب الطلب بلفظ الأمر سنواجه أمثلة عديدة، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.

أما الطلب بأسلوب التمني، فيلاحظ قارئ القرآن الكريم أنه يأتي غالباً في خطاب الكفار وتتصدره (لولا)، قال أبو حيان: “ولو لا للتحضيض بمعنى هلا وهي كثيرة في القرآن”، ومن الأمثلة على الطلب بأسلوب التمني قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}.

ويبدو أن الطلب بأسلوب التمني في خطاب الكفار بـ (لولا) نابت عنه في بعض المواضع القرآنية (هلْ)، مثل قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}، وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}، وأحياناً تنوب (ليت) مثل قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

ومهما كان نوع الأسلوب الذي جاء به خطاب الكفار، فإن الرغبة الداخلية القلبية لدى الداعي من الكفار والمنافقين “تصطدم بواقع خارجي عسير المنال، أو بموقف شديد المحال، كنزول الملائكة، ورؤية الله، والرجوع إلى الدنيا”، ولعل من أكثر الآيات القرآنية تعبيراً عن اصطدام أماني الكفار بالواقع المحال يوم القيام قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

والمتتبع لألفاظ وأساليب الطلب في القرآن الكريم يلاحظ أن أسلوب الطلب بلفظ النهي يختلف عن غيره من الأساليب والألفاظ، حيث يبدو أنه جاء قليلاً في الخطاب القرآني، ومن الأمثلة على هذا الأسلوب قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}. ومهما كان من أمر، فإن كل لفظ قرآني له دلالة خاصة نحتاج أن نعيد النظر فيها من حين لآخر لاكتشاف فحواها بدقة عالية.