بعث الرسول الكريم – ﷺ – الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليستلم منهم الصدقات، وفرح القوم بمقدم رسول رسول الله إليهم وخرجوا لاستقباله، لكن الوليد خاف من ذلك وبدأ يحدّث نفسه أنهم ما خرجوا إلا لقتله، فرجع إلى رسول الله – صلَى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ! فغضب رسول الله – ﷺ – غضباً شديداً.. وبينما يحدّث نفسه – ﷺ – أن يغزوهم، وصل وفد من بني المصطلق إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وخشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله.. فأنـزل الله آية (وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة..)
لقد كانت قبيلة بني المصطلق قاب قوسين وأدنى من مصيبة ستلحق بهم قريباً، لولا أن الله أنزل آية من فوق سبع سماوات تدعو إلى التريث والتحقق من الأخبار قبل تصديقها والتعامل معها.. توجيه قرآني مهم ضمن قواعد السلوك والتعامل مع الأخبار، وهذا ما يسميه الإعلاميون بميثاق الشرف الصحفي، الذي من إحدى بنوده أهمية التريث والتثبت والتحقق من أي خبر قبل البناء عليه. وإن مثل هذه القواعد السلوكية أجد أهميتها وأهمية أن يلتزم بها كل من يتواصل مع الآخرين بأي وسيلة من الوسائل، لاسيما في وقتنا الحاضر في ظل تنوع وكثرة وسائل التواصل في عالم، يتفجر تقنية ومعلومات وبشكل مذهل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
إن واحدة من سلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، هي في الكم الهائل المتدفق من الأخبار والمتناقلة بين مستخدميها دون كثير وعميق تثبت وتحقق أو على أقل تقدير تأن وانتظار، بل تجد وكأن من مهمة أي شخص فينا ما إن تصله أخبار معينة، أن يقوم من فوره بتمريرها على معارفه وزملائه وأصدقائه، لتجد بالمثل في أولئك المعارف والزملاء والأصدقاء من هو على نفس الشاكلة !
ما إن تبدأ يومك، حتى تجد عشرات التنبيهات في تطبيقات التواصل بالهاتف، من تويتر إلى واتز آب ومرورا بانستغرام وفيسبوك وغيرها. تتدفق علينا الأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات من خلال تطبيق الواتز آب، كأبرز وسائل التواصل الاجتماعي العديدة، والأكثر استخداماً حول العالم تقريباً، سواء وصلتك المواد بشكل خاص أو عبر مجموعات..
وصفات طبية وعلاجات لأمراض ومواعظ دينية ورسائل تربوية، ونكت ونوادر وقفشات، وأخبار السياسة والاقتصاد والحروب والمآسي، بالإضافة إلى الأفراح والأحزان.. إلى آخر قائمة طويلة أو سيل عرم من المعلومات والأخبار، دون ذكر مصادر موثوقة عند غالبيتها، فتجد أغلبنا – كما أسلفنا – يعيد إرسال ما يصله بحسن نية.. لكن هل حُسن النية يكفي لكي أعيد إرسال معلومات وأخبار غير مثبتة أو وصفات طبية غير مأمونة أو معلومات دينية أو سياسية أو غيرها وفيها الكثير من التدليس وعدم الدقة؟ وهل المطلوب إعادة نشر كل ما يصلنا من رسائل ومقاطع أفلام وبرامج وغيرها؟
الحاصل الآن، أن السلوك الغالب عند معظم مستخدمي وسائل التواصل هو إعادة الإرسال على الفور. وليست الإشكالية هاهنا أن تعيد إرسال مادة معينة تصلك، لكن الإشكالية في السرعة أو فورية التعامل، وكأنما أحدنا وكالة أنباء مطلوب منها سرعة النشر وتحقيق سبق صحفي! وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الحديث الصحيح، وفي رواية أخرى، كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع.
إن واحدة من السلبيات التي لاحظتها مع هذا الإدمان الحاصل على وسائل التواصل، أن صار المرء منا يخاف أن يصل به هذا الإدمان وهذا الكم الهائل من المعلومات، إلى ما يسمى بتبلد الإحساس – إن صح وجاز لنا التعبير- لماذا؟ بسبب ضخامة وكثرة ما يرى من أمور دافعة لا شعورياً لبلادة الإحساس أو موتها تقريباً.
من كان قبل هذا الانفتاح الحاصل في العالم يجرؤ بالأريحية التي عليها الآن على مشاهدة صور المذابح والقتل والدماء والأشلاء وعلى الهواء مباشرة؟ من كان يتصور أن يتبلد الحس إلى درجة أن يشاهد المرء منا الآن عمليات ذبح أو قطع أعناق البشر أو إعدامهم شنقاً وحرقاً ورمياً بالرصاص وصولاً إلى السيف؟ من كان يستمتع بمشاهدة أفلام حقيقية لبشر يموتون في حوادث سيارات أو غيرها؟ الأمثلة أكثر من أن نحصيها في مساحة محدودة كهذه..
الأمر صار أشبه بمسألة الاعتياد على منكر من القول أو الفعل إلى درجة الألفة معه ! أي أننا اليوم، وبسبب كثرة الاطلاع على الصور والروابط المرسلة عبر وسائل التواصل، خاصة تلك المؤلمة والشنيعة، لم نعد نهتم ولا نشعر بما نرى ونسمع، وربما بعضنا يتألم بعض الشيء، لكنه بعد قليل سينشغل بأمور حياتية أخرى وينسى ما رأى أو سمع، لتجده يشاهد صوراً وأفلاماً أخرى مؤلمة تأتيه بالغد، وكأن بالأمس ما حدث شيء ! أليست هذه هي الألفة التي أعنيها؟
هذا هو واقعنا وللأسف.. والمؤلم فيه أن العدوى انتقلت إلى الأطفال، الذين فقدوا البراءة التي كنا نستشهد بها قديماً، حتى صار طفل اليوم أكثر ميلاً نحو عنف الألفاظ وعنف التعامل، وصار أكثر جرأة في الاستمتاع بمشاهد الرعب والألم! وهذا بكل تأكيد لن تكون نتائجه المستقبلية سارة ومحمودة.
هذا السيل المتدفق من المعلومات المتنوعة عبر وسائل التواصل، لابد من تهذيبها وضبطها بصورة وأخرى. وأرى أن المستخدم نفسه يبدأ قبل غيره. كما أن الآباء والأمهات والأبناء أنفسهم، مسؤوليتهم كبيرة هنا. أضف إليهم مؤسسات التعليم والتوجيه والإرشاد وما شابهها، عليها واجب التوعية والتنوير.
الخشية أن نكون قاب قوسين أو أدنى من ظهور جيل عنيف سيتوحش بعد حين من الدهر قصير، وسينفلت كما انفلت غيره في مجتمعات أخرى سبقتنا إلى التقنية والتواصل.. ولو لم نتنبه للأمر سريعاً، فالجيل قادم في خطر آكد دون أدنى ريب.. إنني هنا لا أدعو إلى العزلة وتجنب مثل هذه التقنيات والبرمجيات، لكن أدعو إلى أهمية التثبت واستخدام بعض العقل في قبول ما يصل إلينا أولاً، ومن ثم جدوى إعادته ثانياً، واختيار الأشخاص المناسبين لتحويل ما اقتنعنا به ورأيناه صالحاً لهم، ثالثاً وأخيراً، فلعل وعسى بهذه الخطوات الثلاث، نقدر على التفاعل الإيجابي المثمر مع هذا السيل العرم من المعلومات المتدفقة علينا من كل حدب وصوب.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.