قبل التعرف على ابن عبد الظاهر فلقد ازدهرت الكتابة التاريخية في عهد دولة المماليك وكانت امتدادا لحركة تاريخية نشطة في العصرين الفاطمي والأيوبي، غير أنها أصبحت في عصر المماليك أكثر غزارة وتنوعا عن ذي قبل، واشتغلت بها طوائف مختلفة من العلماء والفقهاء والكتاب.
وقدم المؤرخون خير إنتاجهم في مختلف ميادين الكتابة التاريخية، وكان إنتاجا عظيما من حيث الكم والكيف، وعلى أيديهم ظهرت الموسوعات الكبرى، مثل “نهاية الأرب في فنون الأدب” للنويري، و”صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي، و”مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العمري.
وكان من أبرع المؤرخين الذين ظهروا في مطالع دولة المماليك البحرية محيي الدين بن عبد الظاهر، وكان إلى جانب كونه مؤرخا كبيرا كاتبا عظيما صاحب قلم بليغ أهّله لأن يحتل مكانة مرموقة في الصف الأول من كتاب العربية، وقدم للمكتبة التاريخية روائع في فن الترجمة الشخصية، وخص السلطان بيبرس بواحدة من أجمل السير في تراثنا العربي، اعتمد عليها كل من جاء بعده من المؤرخين.
المولد والنشأة
ولد أبو الفضل عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بالقاهرة في (9 من المحرم 620هـ = 12 من فبراير 1223م)، ولا تحدثنا المصادر كثيرا عن حياته الأولى وملامح نشأته، غير أن ذلك لا يمنعنا من تكوين صورة عن تلك الحياة، يساعدنا على ذلك أنه نشأ في بيت علم وفضل، فأبوه رشيد الدين المتوفى سنة (649هـ = 1250م) كان شيخا للقراء في مصر، ومن البارعين في فن القراءات.
وقد بدأ محيي الدين بن عبد الظاهر حياته بحفظ القرآن مثل أقرانه من طلبة العلم، وتردد على حلقات الفقهاء والمحدثين، وتحتفظ المصادر بأسماء قليلة لشيوخه، فيذكر المقريزي أنه سمع من جعفر الهمداني، وعبد الله بن إسماعيل.
ولم تقتصر ثقافته على العلوم الشرعية واللغوية، بل امتدت لتشمل الأدب والتاريخ والأخبار، وهو ما مكنه من الالتحاق من ديوان الإنشاء على عهد الأيوبيين الذي كان يضم فحول الكتاب البارعين.
الظهور والتألق
لم يبدأ نجم ابن عبد الظاهر في التألق والظهور إلا في عهد السلطان الظاهر بيبرس، حين عهد إليه بعمل شجرة نسب للخليفة الحاكم بأمر الله أحمد العباسي، الذي اختاره بيبرس خليفة للمسلمين في محاولة منه لإحياء الخلافة العباسية في القاهرة بعد أن سقطت في بغداد سنة (656هـ = 1257م)، ثم توثقت صلته بالظاهر بيبرس حتى صار موضع ثقته، فعندما أرسل إليه الملك المغولي بركة خان يطلب عقد حلف مع بيبرس كتب ابن عبد الظاهر صيغة الكتاب، وقرأه على السلطان بحضور الأمراء، كما كتب تفويض الظاهر بيبرس بولاية العهد إلى ولده الملك السعيد بركة خان.
واحتفظ ابن عبد الظاهر بمكانته أيضا في عهد السلطان قلاوون الذي حكم مصر بعد الظاهر بيبرس وولديه، وكتب له تفويض السلطنة بولاية العهد إلى ابنه علاء الدين علي، ثم لابنه الملك الأشرف خليل قلاوون.
وكان لابن عبد الظاهر ولد نابه على مثاله في البلاغة وحسن البيان، يدعى فتح الدين محمد، ترقى إلى وظيفة كاتب السر أي صاحب ديوان الإنشاء في عهد السلطان قلاوون، وكانت هذه الوظيفة من كبرى وظائف الدولة.
وقد عمل ابن عبد الظاهر تحت رئاسة ابنه في ديوان الإنشاء، وشاءت الأقدار أن يتوفى الولد قبل أبيه سنة (691هـ = 1292م).
أمير البيان في عصره
برع ابن عبد الظاهر في الكتابة البيانية والرسائل البليغة حتى صار شيخ أهل الترسل في عصره، وحاكى القاضي الفاضل (وزير صلاح الدين ومستشاره) في بيانه، وتأثر به في طريقته، وبلغ من إعجابه به أن ألف عنه كتابا بعنوان “الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم” وهو كتاب مطبوع نشره الدكتور أحمد بدوي بالقاهرة سنة 1959م.
وقد أشاد ببلاغته معاصروه وشهدوا له بالتقدم في صناعة الكتابة والأدب؛ فقد وصفه القلقشندي بأنه وأبناؤه “بيت الفصاحة ورؤوس البلاغة”، وقال عنه ابن تغري بردي بأنه “من سادات الكتاب ورؤسائهم وفضلائهم”.
ولما وضع ابن عبد الظاهر مؤلفاته التاريخية ضمنها عددا كبيرا من الوثائق التي كتبها، وصاغ أحداث عصره ووقائعه وصور أبطاله ومعاركه بقلمه البليغ وأسلوبه الرفيع، وغلبت عليه صنعته، فقد كان أديبا شاعرا قبل أن يكون مؤرخا كبيرا.
وقد أتاح له عمله في ديوان الإنشاء إصدار المكاتبات الرسمية والرسائل السلطانية، والرد على الرسائل الواردة، ومتابعة أعمال السلطان اليومية ومشاهدة الأحداث عن قرب، وكان كل ذلك مادة خصبة لمؤلفاته التاريخية.
ومن أمثلة ما كتبه عن تراجع التتار عن مهاجمة الحجاز حين علموا بوجود السلطان بيبرس هناك لأداء فريضة الحج سنة (667هـ = 1269م): “وكان التتار قد قصدوا ركبا إلى الحجاز، وقصدوا بذلك كشف الطرقات والتلصص على تلك الجهات، فركبوا الطريق ومعهم جماعات من المغول لا يعرفون الله ولا حرمة، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، كم أهلكوا من أمم، وكان قصدهم استباحة دم الحجاج في الحرم، فبلغتهم حركة السلطان، فرجعوا خائبين وقفلوا هابلين، وكان السلطان قد بلغته هذه الأخبار قبل توجهه إلى الحجاز فأقدم وتقدم، وعزم على الجمع بين الحج والجهاد وصمم…”.
الظاهر بيبرس في مرآة ابن عبد الظاهر
صور ابن عبد الظاهر في كتابه “الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر” السلطان بيبرس بالحاكم القوي اليقظ الذي يتابع شئون دولته متابعة دقيقة، ويراقب ولاتها، ويعمل على سلامتها وحمايتها من الأخطار المحدقة بها، ويلتزم بما جاء في نص كتاب التقليد الذي كتبه فخر الدين بن لقمان والذي قرئ على السلطان حين ولاه الخليفة العباسي مقاليد الأمور في البلاد سنة (659هـ =1261م)، وقد تضمن هذا التقليد مطالبة السلطان بالالتزام بأحكام الشريعة، وملاحظة أمور الدولة، والدقة في اختيار النواب والولاة ومراقبة تصرفاتهم وإلزامهم بمعاملة رعاياهم بالعدل والإحسان، والعناية بأمور الجهاد وحماية الثغور من الأعداء، والاستعداد الدائم لمواجهتهم.
وصور ابن عبد الظاهر السلطان بيبرس وهو جالس للناس ينظر في أمورهم فقال: “وأصبح ينظر في أمور دولته؛ لأنه كان إذا لم يركب يصلي الصبح، ويخرج إلى باب دهليزه، ويجلس على كرسي أمير جاندارة، ظاهرا للناس كافة، يقرب منه الفقير والمرأة والضعيف، ويقضي حوائج الناس، ويسمع قصص الرعايا، ويوقّع عليها بين يديه، إلى أن يرى أمراءه حضروا من سوق الخيل، يقوم ويجلس في مرتبة السلطنة ويحضر الأمراء، ويمد لهم الخوان ويجلس لقضاء حوائج الناس…”.
ويرسم له صورة حية وهو يؤدي مناسك الحج سنة (767هـ= 1366م) مثله مثل غيره من الحجاج دون حراسة أو حاشية تحيط به، فيقول: “وقدم مكة شرفها الله خامس ذي الحجة، وصافح بيده المجاهدة في سبيل الله تعالى أركان البيت الشريف متبركا، وما ترك والحمد لله مزارا ولا أغفل منسكا، وأعطى خواصه جملة من المال يفرقونها سرا، وفُرقت قمصان وكساوٍ على أهل الحرمين، وبقي كأحد الناس لا يحبه أحد، ولا يحفظه إلا الله تعالى وهو منفرد، مصليا وطائفا وساعيا، ثم عمد إلى الكعبة شرفها الله تعالى فغسلها بيده، وحمل الماء في القرب على كتفه، وغسل البيت الشريف، وبقي في وسط الخلائق، وكل من رمى إليه إحرامه غسله له بما ينصب من الماء في الكعبة الشريفة، ويرميه إلى صاحبه، وجلس على باب الكعبة، فأخذ بأيدي الناس أخذ الله بيده ليطلع بهم الكعبة، وتعلق أحد العوام به ولما لم يقدر على يده لتزاحم الناس عليه تعلق بإحرامه فقطعه، وكاد يرميه إلى الأرض، وهو مستبشر بهذا الأمر، وعلق كسوة البيت الشريف بنفسه وخواصه.. هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي مرافقه طول الطريق يستفتيه، ويتفهم منه أمر دينه، ويتحرى في أمر دينه أتم تحر، ولم يغفل تدبير الممالك، وكُتاب الإنشاء تكتب عنه في المهمات…”.
وهذه الصورة النابضة التي كتبها ابن عبد الظاهر بقلمه البليغ للظاهر بيبرس تؤكد حرص السلطان على المحافظة على الشريعة، مثل أمره إبطال تعاطي الحشيشة وتأديب آكلها، وإبطال الخمر والمنكرات، وميله إلى أن يصحبه في معاركه العُبّاد والزهاد والفقهاء.
أما في المعارك والحروب فقد أبدع ابن عبد الظاهر في رسم صورة البطولة للسلطان، فهو فارس شجاع لا يبالي بالمخاطر، يقف وسط جنوده، يعمل معهم في حفر الخنادق وجر المجانيق دون ملل أو كلل، يشحن الجنود ويزيد من حماسهم واستعدادهم للحرب.
وأشار المؤلف إلى جهود السلطان في استقرار البلاد واستتباب الأمن فيها بإقامة المؤسسات القضائية التي تفصل في المنازعات، فأقام دار العدل لإنصاف الضعيف من القوي، وكان السلطان يجلس بنفسه بدار العدل التي في القاهرة للنظر في حوائج الناس، وبلغ حرصه على تيسير أمور التقاضي أن جعل لقاضي القضاة أربعة نواب من أصحاب المذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة للقضاء بين الناس.
آثاره ومؤلفاته
ترك ابن عبد الظاهر عددا من المؤلفات التاريخية والأدبية وصل إلينا كثير منها، ومن تلك الكتب:
– الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، وهذه السيرة كتبها المؤلف في حياة السلطان، واستمد مادتها التاريخية من مصادر متعددة، وكان السلطان نفسه أحد تلك المصادر؛ حيث أملى عليه معلومات عن حياته الأولى، بالإضافة إلى وثائق الدولة التي كانت تحت يده ومشاهداته لكثير من الأحداث. وقد نشر هذه السيرة عبد العزيز الخويطر في الرياض سنة 1976م.
– تشريف الأيام والعصور بسيرة السلطان الملك المنصور، وهي سيرة للمنصور قلاوون (679 – 689هـ = 1279 – 1290م) تناول فيها حياة السلطان وجهوده السياسية وفتوحاته العسكرية وجهاده ضد المغول والصليبيين، وقد فُقد الجزء الأول من الكتاب، والموجود منه الجزء الثاني الذي يتناول سيرة السلطان من سنة (680هـ = 1280م) حتى وفاته، وقد نشر الكتاب محققا مراد كامل بالقاهرة سنة 1961م.
– الروضة البهية الزاهرة في خطط المُعِزّية القاهرة، ويتناول الكتاب خطط مدينة القاهرة وتطورها إلى عصره، وعُني في كتابه بذكر أغلب المعالم التي تعود إلى العصرين الفاطمي والأيوبي، وهذا الكتاب يُعَد أول كتاب يخصص لذكر خطط القاهرة، حيث اهتم كل من ألف قبله بذكر خطط مدينة الفسطاط، وقد اقتبس من الكتاب كثيرٌ من المؤرخين مثل ابن أيبك الدواداري وابن دقماق والقلقشندي والمقريزي، وكان يظن حتى عهد قريب أن الكتاب مفقود حتى عُثر على نسخة خطية محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني فقام بنشرها في بيروت أيمن فؤاد السيد سنة (1417هـ = 1996م).
وإلى جانب ذلك عدد كبير من الرسائل الديوانية احتفظ ببعضها القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى”. وقصائد شعرية مدح فيها سلاطين المماليك، وذكر فيها أحداث عصرهم، وتحتفظ المكتبة التيمورية بنسخة من ديوان ابن عبد الظاهر.
وفاته
وقد امتدت الحياة بابن عبد الظاهر حتى تجاوز السبعين من عمره قضى معظمها قريبا من الأحداث التي شهدتها مصر والشام فسجلها في دقة وأمانة في كتبه التي لا تزال المصدر الأساسي لكل من يتناول تاريخ دولة المماليك في عهد السلطان الظاهر بيبرس. وظل ابن عبد الظاهر موضع تكريم السلاطين المماليك حتى تُوفي في القاهرة في (4 من شهر رجب 692هـ= 17 من يونيو 1293م).
أحمد تمام
هوامش ومصادر:
شهاب الدين النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب – دار الكتب المصرية -القاهرة -1923-1997م.
المقريزي: المقفى الكبير – تحقيق محمد اليعلاوي – دار الغرب الإسلامي – بيروت -1991م.
ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي – تحقيق محمد أمين ونبيل عبد العزيز – مركز تحقيق التراث- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1984 – 1994م.
ابن عبد الظاهر: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر – تحقيق عبد العزيز خويطر – بيروت – 1976م.
شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون – دار العلم للملايين – بيروت -1990م.