لا يمكن للإنسان أن يعيش منفردًا منعزلاً في هذه الحياة الدنيا، بل لا بد له من الاجتماع -فالإنسان كما قيل: مدني بطبعه([1])– رغم ما ينشأ عن هذا الاجتماع من اختلاف بين الآراء والتوجهات.

وإذا كان هذا الاجتماع ضروريًّا ولا غنىً للإنسان عنه، فلا بد من عقدٍ اجتماعي يحفظ الحقوق، وتُؤدَّى من خلاله الواجبات، ويحافظ فيه على نظام المجتمعات.

فإذا لم يوجد عقدٌ اجتماعي لصار الناس فوضى، يعيشون عيش الوحوش في البرّيّة، يفترس الكبير الصغير، ويأكل القوي الضعيف.

لذا يحتاج المجتمع الإنساني إلى من يسوس أفراده، ويرعى مصالحهم، ويحمي ضعيفهم، ويرد على المعتدي عليهم.

لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَراة لَهُمْ … ولا سراة إذا جهالهم سادوا

هؤلاء هم الطليعة التي تقوم على شؤون الناس، وتنظر في حوائجهم، وتلبي طموحاتهم وتطلعاتهم.

يقول الإمام الرازي: “الإنسان مدني بالطبع، وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات، وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل، فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس.

ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق؛ فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك.

أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه”([2]).

وهذا السلطان القاهر السائس يحتاج إلى فئة معاونة له، تقيم النظام وتفرضه، وتحافظ عليه، وترد من يخرج عنه، وتعاقب من يتمرد عليه.

وهذا النظام يكون من خلال القوانين الضابطة لحركة المجتمع.

والنفس البشرية مركوز فيها ركائز لا يختلف عليها عموم البشر.

فهم متفقون على قُبح الظلم وحُسن العدل.

ومتفقون على قبح الكذب وحسن الصدق.

ومتفقون على قبح الخيانة وحسن الأمانة.

ومتفقون على قبح السرقة والقتل والزنى… إلخ.

ومتفقون على حُسن العفة والاعتدال… إلخ.

هذا في النفوس السوية من بني البشر.

ولكن هنا نفوس منحرفة متمردة، انقلب عندها ميزان الحسن والقبح؛ فترى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا.

وقد تعترف بحسن الحسن وقبح القبيح، لكنها تُعرض عن الحسن ولا تأتيه، وتُقبل على القبيح وتأتيه.

وهذه الفئة لو تُركت لعم فسادها، وأصبحت المجتمعات فاسدة مريضة، يوشك أن تذهب ريحها، ولا تبقى لها باقية.

فما ظنك بمجتمع يكثر فيه القتل والزنى والسرقة… إلخ، ولا يقف في وجه ذلك أحد.

سيكون هذا المجتمع غابة، وستمضي عليه سنة الأولين من التفسخ والانحلال ثم الفناء.

ولمنع ذلك يلزم وجود عصابة تقف في وجه القبح، وتعمل على نشر الحُسن.

فـ”الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال، وإما بهلاك الانحلال والاختلال”([3]).

فوجود أمثال هؤلاء يكون لحماية المجتمع، وإلا فالعاقبة وخيمة.

يقول ابن تيمية: “وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمرٍ ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر؛ كما قال -تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53].

فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه، ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته.

وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعدًا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر؛ ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين؛ كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة.

وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ بَنِي آدَمَ، فَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيُنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ؛ وَإِلاَّ فَلا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى، وَيُؤْمَرَ وَيُنْهَى، إمَّا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَإِمَّا بِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَقُّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّهُ، وَإِذَا اُتُّخِذَ ذَلِكَ دِينًا كَانَ دِينًا مُبْتَدَعًا”([4]).

وقد اعتبر ابن تيمية أن “الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا يُنهى عن منكر إلا ويُؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله ويُنهى عن عبادة ما سواه”([5]).

وإني أرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لقوام الدين فحسب، بل لقوام الدنيا كذلك.

والأمة التي تُعرض عن الفطرة وتتبع الهوى، وتجعل مؤسساتها الشرطية والقضائية -والتي تمثل في وجهة نظري هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- حارسة لقوانين ضد الفطرة، مثل: إباحة الخمور، وزواج المثليين، والدعارة…. إلخ، فلتنتظر هذه الأمة سنة الاستبدال.

فهذه الأمة أمرت بالمنكر وحرسته، ونهت عن المعروف ومنعته أو تركته؛ فالعبرة بغلبة المنكر وشيوعه.

والمحصلة أن استمرارية الأمم يكون بقربها من الفطرة وحراستها لها بالقوانين والحسبة، وهلاكها ببعدها عن الفطرة وتكريسها لنظام ينافي الفطرة ويعمل على معاداتها.

ولا غنى للمجتمعات عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا ذهبت أدراج الرياح.

 


([1]) انظر: عبد الرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار ابن خلدون، الإسكندرية، ص(30).

([2]) فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي: مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ – 2000م، (26/174).

([3]) الظلال، (4/1933).

([4]) مجموع الفتاوى، (28/168-169) باختصار.

([5]) اقتضاء الصراط المستقيم، ص(297).