في زمن تتكالب فيه الأزمات على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتتفكك فيه الروابط الجامعة لصالح هويات متطرفة وعنصريات قاتلة، وفي عصر تكاد تهيمن فيه ثقافة العبث والتفاهة وتسيطر السيولة الفكرية والقيمية على الوعي الجمعي، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة بناء رؤية حضارية شاملة تنقذنا من هذا الانحدار. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى الإسلام؛ عقيدة دينية ورؤية كونية شاملة ومنظومة قيمية متكاملة تشكّل مركزًا صلبًا تدور حوله بقية نظم الحياة.

رؤية الإسلام للكون والحياة

إن ما يميز الإسلام عن سائر الأديان والفلسفات والأيديولوجيات التصورات الوضعية هو توفره على رؤية متكاملة للكون والحياة والإنسان؛ رؤية تجمع بين الثابت والمتحول، وبين الغيب والشهادة، وبين الانتماء الطبيعي وبين الفقه القيمي. هذه الرؤية لا تنشئ فقط وعياً دينياً، بل تؤسس لانتماء وجودي عميق، يربط الإنسان بالله، ويمنحه مكانة ومسؤولية داخل هذا الكون.

فالإنسان في الرؤية الإسلامية ليس كائناً عابراً بلا غاية، بل هو خليفة، صاحب رسالة، مدعوّ إلى إعمار الأرض وفق منظومة تشريعية وأخلاقية توازن بين الروح والمادة، وبين الذات والآخر. هذه الرؤية تجعل من كل فعل إنساني – إذا ما ارتبط بالقصد والقيمة التي وضعها الاسلام – فعلاً عباديًا، وترفع حياة الإنسان من مجرد استهلاك أو تفاعل غريزي إلى حياة ذات معنى.

الإسلام يمنح للحياة المعنى

لقد باتت مجتمعاتنا اليوم غارقة في «سيولة قيمية» لم تترك لها ثوابت تحتكم إليها. ففي ظل انحسار المرجعيات الكبرى، تحولت الحياة إلى ساحة عبث مفتوحة؛ تتنازع فيها المذاهب الفكرية، وتتنافر فيها الانتماءات، ويتحول الإنسان فيها إلى رقم أو مستهلك أو تابع. وقد جاءت هذه السيولة نتيجة لانفصال المجتمعات عن مرجعيتها الحضارية الأصلية، واستيراد نماذج فكرية من خارج السياق الحضاري والثقافي والاجتماعي تحمل معها «أفكارا قاتلة».

في هذا السياق، يظهر الإسلام ملاذا ومرجعية قادرة على إعادة بناء المعنى، وترسيخ الانتماء، وتوجيه الطاقة الإنسانية نحو البناء بدل الهدم. فبدل أن يُذوّب الإنسان في طائفته، أو إثنيته، أو انتمائه السياسي، يقدم الإسلام تصورًا يُعيد له هويته الكونية، فيرتبط بخالق واحد، وغاية واحدة، وأخوة إنسانية تتجاوز كل الحدود المصطنعة.

الإسلام واستيعاب الاختلاف

إن من أبرز ما يقدمه الإسلام في هذا العصر الممزق هو قدرته على استيعاب الاختلاف دون أن يتحول إلى صراع. فالرؤية الإسلامية لا تنفي التنوع، بل تعتبره من سنن الله في خلقه: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين } (هود: 118). لكن هذا الاختلاف لا يُفجّر إلى عنف، بل يُحوَّل إلى تجربة إنسانية ثرية تُثري العقل، وتُوسّع الأفق، وتُكرّس التعاون بدل الإقصاء.

في ظل رؤية الإسلام، لا يُختزل الإنسان في لونه، أو لغته، أو مذهبه، بل يُقوّم بعمله ومساهمته في مشروع العمران. هذه الرؤية تُشكّل أساسًا لبناء دولة عادلة، ومجتمع متماسك، وفرد ممتلئ بالمعنى. ولهذا فإن إعادة بناء المشروع الحضاري الإسلامي لا يكون بتكرار الخطاب، بل بإحياء هذه الروح الجامعة، التي تجعل من التنوع رافعة لا عبئًا.

من الاستهلاك إلى الرسالة

إن الرؤية الإسلامية للكون والحياة تجعل من الإنسان مسؤولاً، لا متلقيًا سلبياً. فهو مكلّف يحمل الأمانة لا هملا بلا تحمّل، وحر لكنه مسؤول، وطليق لكنه محكوم بالميزان. ومشروع الاستخلاف في الأرض الذي يطرحه الإسلام ليس فكرة ميتافيزيقية، بل مشروع عمل يوجه كل طاقات الإنسان نحو غاية سامية، تصالح بين مطالبه الجسدية وطموحاته الروحية، وتجعله يسعى لتحقيق إنسانيته الكاملة، لا من خلال الانعزال، بل من خلال التفاعل والعطاء.

وهكذا، فحين ينخرط المسلم في مشروع الاستخلاف، يرتقي من انشغاله بالجزئي والعابر إلى آفاق رحبة من الوعي والفاعلية. ويصبح التعليم، والعمل، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصاد، والسياسة، كلها ساحات لتحقيق المعنى، لا مجرد أدوات للبقاء أو الهيمنة.

من أين يبدأ التحرر الحقيقي؟

لقد أخفقت مجتمعاتنا مرارًا وتكرارًا في محاولات النهوض، لأن تلك المحاولات لم تنطلق من مرجعية راسخة، ومن مركز ذاتي، ولم تعتمد رؤية شاملة تستوعب الإنسان واحتياجاته وتطلعاته. والتجريب المستمر خارج المرجعية الإسلامية أدى إلى تعميق التبعية، لا الخروج منها. فمنظوماتنا السياسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية وغيرها استوردت القوالب، لكنها لم تنتج مشروعًا خاصًا بها. فغابت العدالة، وتفككت الهوية، وساد الشعور بالتيه.

والتحرر الحقيقي لا يبدأ بمباشرة حلول اقتصادية او سياسية أو ثقافية او اجتماعية جزئية بلا رؤية ولا توجه واضح، بل يبدأ من تحرير الرؤية، ومن إعادة بناء العلاقة مع الذات، ومع الكون، ومع الآخر، عبر منظور يحرر الإنسان من عبوديته لغير الله، ويربطه بأفق رحب يتجاوز الحاضر العابر نحو غاية أسمى حددتها رسالة الإسلام للإنسان لإخراجه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

خاتمة: الإسلام رافعة النهضة

إننا اليوم أمام خيار وجودي، لا سياسي أو ثقافي فقط. فإما أن نعيد ترتيب أولوياتنا ونؤسس لنهضتنا على أساس رؤيتنا الإسلامية الأصيلة، التي تمنح الإنسان مكانته، وتمنح المجتمع وحدته، والدولة مشروعها الحضاري؛ أو نظل ندور في حلقة مفرغة من التجريب، والانقسام، والتبعية.

والإسلام ليس مجرد ملاذ من الخطر، بل هو بوصلة النجاة، وقاعدة الانطلاق، ورؤية إنقاذ روحي وحضاري في آنٍ معًا. إنه الدين الذي يعطي الإنسان ما يفتقده في عالم اليوم: المعنى، والكرامة، والانتماء، والمسؤولية. ومن دون هذا، لن نكون إلا ظلًا لغيرنا… ونكرر الفشل بأسماء جديدة.

تنزيل PDF