جوانب الإعجاز في شخصية الرسول – ﷺ- متعددة، ومن جوانب الإعجاز التي لا يُسلَّط عليها الضوء كثيرا جانب الإعجاز الإداري في شخصيته ﷺ، فقد قدم رسول الله ﷺ القدوة في إدارته للدولة، قدوة حينما نستعرض مظاهرها يتبين لنا أننا أمام إفلاس بشري عريض في هذا المجال!!
بسط الأمن دون قانون الطوارئ
فقد حقق رسول الله ﷺ الأمان في دولته على كافة الأصعدة، الأمان السياسي، والأمان الاجتماعي، والأمان الغذائي.. والذي أريد أن أتحدث عنه هنا القدرة السياسية في سياسة دولته محققا أعلى درجات الأمن في المجتمع دون أن يلجأ لقانون الطوارئ، بل دون أن يكون معه ﷺ درة يرهب بها من تسول له نفسه إيذاء الناس وتهديد أمنهم.
إن المدرس في فصل لا يتجاوز عدد تلاميذه أربعين تلميذا، يعلنها في صراح أنه لا يمكنه أن يقود هذا الجمع من الأطفال دون عصا رادعة، وهم بعد أطفال لم يبلغوا الحلم، فإذا كان هذا المدرس يدير فصلا به مجموعة ممن راهقوا البلوغ فإنه يستبدل بهذه العصا هِراوة ضخمة لتكون على مستوى الردع، فإذا حدثته في إدارة الفصل دون هذا السلاح الرادع، قال : لا أستطيع!!!
بل إن الأب أو الأم كلاهما لا يستغني عن ضرب أولاده أو تهديدهم بالضرب حتى يتمكنا من القيادة، وها هي مجتمعات المسلمين، طفها من أولها إلى آخرها، فانظر كم عساك تظفر بأم أو أب لم يضربا أولادهما، بل سائل المشايخ الكبار حفظة القرآن، ما سر حفظهم للقرآن في أسنانهم الأولى؟ يجيبون جميعا: أن مشايخهم كانوا لا يتوانون في ضربهم والقسوة عليهم، ويضيفون : ما فسدت الأجيال اللاحقة إلا حينما وضع الأستاذ عصاه!!
فكيف إذا تحدثنا عن سياسة دولة بأكملها، فيها الصالح والطالح، والبريء والمذنب، والطيبون والأشقياء، والمسالمون والبلطجية، والموالون والمتآمرون، والقانعون والطامعون، والأتقياء والحًسَّاد، وفيها من يريدون إفشال الدولة ليقدموا أنفسهم عوضا عمن أفشلوهم ، وفيها هذه الأخلاط المتباينة من الثقافات ؟
ستجد أننا أمام إجابة واحدة، هي أن سياسة الناس -فضلاً عن الحيوانات- تحتاج إلى شيء من التخويف والترهيب، تحتاج أن يعلم الناس أن الأمير أو المدير ليس رجلاً كآحاد الناس؛ فهو يملك العقاب ويقدر عليه ويمارسه، ولا يبالي أن يظلم في عقابه رجلاً أو اثنين، وبغير أن يستقر هذا في أذهان الرعيَّة.. فلن يثبت للأمير أو المدير إمارة أو إدارة.
المجتمع ليس كله أبا بكر وعمر
لو كانت الرعيَّة كلها مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم لهان الأمر، فحسب هؤلاء موعظة تذكرهم بالله، وتخوفهم يوما يُعرضون فيه عليه، فإذا بك تجدهم رهبانا بالليل فرسانا بالنهار!
لكن المجتمع فيه عبد الله بن أبي بن سلول، كما أن فيه أبا بكر وعمر، فيه ذو الخويصرة الذي قال للنبي ﷺ : ” اعدل!
فيه من يريد تسميم رسول الله ﷺ وقتله، كما أن فيه من يؤثره على نفسه ويفديه بها.
الرحمة لا الرهبة
ومع هذا لم يخش رسول الله ﷺ من وصف نفسه بالمسكنة والعبودية، “اللهم! أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين
فماذا يُنتظر من رجل يدعو الله أن يحيا وأن يموت وأن يحشر مع المساكين!! وهل مثل هذا الدعاء إذا تسامع به الناس يزرع الرهبة في قلوبهم من صاحبه؟
ويسمعه أبو هريرة وأبو الدرداء رضي الله عنهما، وهو يقول: “ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم”. فلم يعتمد رسول الله ﷺ على سياسة التخويف والإرهاب لتخويف الرعية ولزرع مهابته في قلوبهم. بل كان يعتمد سياسة الرحمة واللين والصفح والعفو.
رحمة في غير ضعف
بيد أن الرحمة واللين لا يعنيان الضعف والاستكانة أمام المجرمين والبلطجية الذين يهددون الناس في أمنهم وأعراضهم وأموالهم ودولتهم وأرزاقهم.
ولهذا وجدناه ﷺ كما أثر عنه النهي عن إيذاء أعرابي بال في المسجد، وأمره الناس أن يتركوه دون تعنيف أو إيذاء ليتم بوله في المسجد، وجدناه ﷺ يعزل إماما عن الصلاة بالناس؛ لمجرد بصقه في القبلة، فعند أحمد من حديث السائب بن خلاد – رضي الله عنه -قال: «إن رجلا أم قوما، فبصق في القبلة، ورسول الله – ﷺ- ينظر، فقال رسول الله – ﷺ- لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله – ﷺ-، فذكر ذلك لرسول الله – ﷺ-، فقال: نعم – أحسب أنه قال -: إنك آذيت الله ورسوله»
فأين البصاق من البول؟ لكن الأعرابي الذي بال في المسجد كان جاهلا بحرمة المسجد وجلاله، ولم يدَّع أنه إمام مبرّز، بل هو واحد من المسلمين، خطؤه لا يتجاوز شخصه، أما الرجل الذي بصق في المسجد، فهو إمام مبرَّز، ومثله لا ينبغي أن يجهل قداسة القبلة وحرمتها، كما أن مثله لا ينبغي أن يتساهل في ذلك، فإن خطأه يتجاوز شخصه لموضعه من الزعامة الدينية، فالمقام لا يحتمل التسامح معه، بل لا بد من أن يُعاقب بالعزل العلني المسبب، الذي يردع الآخرين.
كما وجدناه ﷺ يُعرِّض للسارق عند اعترافه بالسرقة أن يرجع عن الاعتراف كراهية قطع يده، ثم أتي بلص، فاعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله ﷺ: ” ما إخالك سرقت؟ ” قال: بلى مرتين أو ثلاثا. فقال رسول الله ﷺ: ” اقطعوه، ثم جيئوا به ” فقطعوه، ثم جاءوا به فقال له رسول الله ﷺ: ” قل: أستغفر الله وأتوب إليه “. قال: أستغفر الله وأتوب إليه. فقال رسول الله ﷺ: ” اللهم تب عليه ” .
قال ابن القيم في بيان فوائد هذا الحديث : ” التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه”. وبوّب المحدثون بابا بعنوان : “تلقين السارق ما يسقط الحد”
لكننا وجدناه ﷺ يُصِرُّ على قطع يد سارق سرق رداء من المسجد، بالرغم من أن صاحب الرداء أراد أن يعفو عن السارق، روى أبو داود والنسائي أن صفوان بن أمية – رضي الله عنه – قدم المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول الله -ﷺ-، فأمر به رسول الله -ﷺ- أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أُرِد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله -ﷺ-: فهلا قبل أن تأتيني به؟» .
وفي رواية أن صفوان قال: أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به» .
فقد وضع رسول الله ﷺ قانونا لا بد أن يُحترم، وهذا القانون هو : “اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله؛ فإنه من يبدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله
وما أوعى قول القائل:
وضع النَّدى في موضع السيف بالعلا = مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وكقول الآخر :
فقسا ليزدجروا ومن يك راحما = فليقس أحيانا على من يرحم
فقد ساس رسول الله ﷺ رعيته برحمة في غير ضعف، وبحزم في غير عنف، وبِلِين في غير سذاجة!