مهما تعدّدت تعريفات الاجتهاد، فإنّها تتلخّص في بذل الفقيه الوسع والطاقة في تحصيل حكم شرعي ظنّي، وما دامت هناك أمّة مسلمة فإنّ حاجتها لاستنباط الأحكام الشرعية قائمة لمسايرة ركب الحياة وتوفير الإجابات للأسئلة المستجدةّ.

الاجتهاد بين عهدين

أتى على الأمّة حين من الدهر رأى فيه العلماء أنّ الأحكام الشرعية قد أشبعت بحثا وأنّ الفقهاء قد تناولوا موضوعات القرآن والسنة – المتعلّقة خاصّة بمسائل العبادات والحلال والحرام – بالدراسة والتحليل والقياس فلم يتركوا بابا إلاّ طرقوه ولا قضية إلاّ قلّبوها على كلّ الوجوه المحتملة، وقرّروا بناء على ذلك أنّ باب الاجتهاد قد أغلق وأن ليس في الإمكان أبدع ممّا كان، وأنّ الأوّل ما ترك للآخر شيئا!  وإنّما حملهم على هذا المذهب خشيتهم من المتطفّلين على علوم الشريعة أن يعبثوا بها بذريعة الاجتهاد، وماذا عساهم أن يستنبطوا ممّا أغفله الأوّلون؟

سار هذا القول أحقابا من الزمن كان فيها زعم القدرة على الاجتهاد تهمة ليست بالهيّنة تعرّض صاحبها – على أقلّ قدير – للازدراء والاستهجان، وقد أذعن علماء لهذا المنحى ورفضه آخرون، منهم الإمام السيوطي الذي كان يرى أنّه ليس مجتهدا فحسب بل هو مجدّد القرن العاشر، وألف رسالته الشهيرة “الردّ على من أخلد إلى الأرض ونسي أنّ الاجتهاد في كلّ عصر فرض”، وقبل السيوطي وبعده خرج علماء كثر على القاعدة المقرّرة وخاضوا غمار الاجتهاد لامتلاكهم أدواته وشعورهم بحاجة الأمّة إليه، نذكر منهم ابن تيمية قديما والشوكاني حديثا، وبينهما وبعدهما نجوم هادية من المجتهدين المقتدرين لم يخل منهم زمان لا فضاء من بلاد المسلمين، حتّى ادلهمّت بالأمّة الخطوب وتتالت عليها الضربات من الدّاخل والخارج، أصابتهم في حياتهم السياسية والثقافية فامتدّ الجمود إلى العقول وكانت العلوم الشرعية من أوّل ما طاله الخلل فانتهى الأمر إلى إغلاق فعلي لمجال الاجتهاد وكسّر الفقهاء مغازلهم وتركوا النظر العلمي المنقّب في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم واكتفوا بكتابة التعليقات والحواشي على متون كادت تحلّ محلّ القرآن والسنّة في النظر والتدبّر.

وامتدّت هذه الفترة وغذّاها الاحتلال الأجنبي للبلاد الإسلامية حتّى مطلع القرين العشرين تقريبا، حيث بدأت الأصوات ترتفع مطالبة بالعودة إلى الاجتهاد لمواكبة العصر وإنقاذ الأمّة من مخاطر البوار الذي ينذر به التقليد الذي عمّ و طمّ وسدّ آفاق الإحياء والنهضة، وأخذت الروح تسري على استحياء في ساحة العلوم الشرعية، ورغم مقاومة أنصار القديم تجرّأ علماء هنا وهناك على الرجوع إلى مصادر التشريع مباشرة لاستنباط الأحكام للوقائع المستحدثة، وبرزت أسماء لامعة مثل محمد أبو زهرة والمراغي وعلي الخفيف ومحمد محمد المدني ومحمود شلتوت وآخرون في أكثر من بلد إسلامي، كانوا روّادا في بعث الاجتهاد وممارسته بعد أفول.

إلى الاجتهاد من جديد

 هكذا أصبحت الدعوة إلى فتح أبواب الاجتهاد واستئناف مسيرته من ثوابت الخطاب الإسلامي وأدبيّات الدعاة والمصلحين والمفكّرين منذ بدايات عصر النهضة الحديثة، وخاصّة مع بروز ظاهرة الإمام محمد عبده، وقد خطت العملية الاجتهادية خطوات رائدة على أكثر من صعيد ومازال سيرها يقوى ويتعزّز مع الأيام.

 وللاجتهاد الشرعي أصول وضوابط ومنهجية معروفة عند الدارسين لا يستقيم إلاّ بها، ولقد وجد تياران في الساحة الإسلامية المعاصرة يتحدّثان عن الاجتهاد ويقفزان بدرجات متفاوتة على أصوله وضوابطه ومنهجيته، يتمثّل الأوّل في الاتّجاه التغريبي الذي لا يعني الاجتهاد عنده أكثر من إخضاع أحكام الشرع ومنظومته الفكرية والسلوكية للقيم الغربية، فهو يتجاوز الثوابت وبالتالي لا علاقة له بالتالي بالاجتهاد المعروف في الثقافة الإسلامية.

أمّا التيار الثاني فيتمثّل في المدرسة النصيّة الحرفية الظاهرية التي تنطلق من ثوابت الإسلام لكنّها لا تكاد تمارس أيّ نوع من الاجتهاد بسبب انشغالها بالنصوص الجزئية وإعراضها عن المقاصد والمعاني، أي بسبب اعتمادها رؤية تفكيكية تاريخية ماضوية تنتصر للنصوص بفهم تقليدي أقرب إلى الجمود غير آبهة بما يحيط بالوقائع والأفراد والأمم من ظروف متغيّرة تحتاج إلى المعرفة الفقهية الواسعة إلى جانب النظر الثاقب سواء في النصوص أو أحوال المكلّفين من ضيق وسع وعلم وجهل وإرادة حرّة وإكراه ومتانة في الدين أو رقّة، وهذا ما يحتاج إليه المجتهد والمفتي لينصر دين الله ويثبّت عباده على طريق الاستقامة.

 إنّ الاجتهاد في الشريعة – والفتوى وجهه الأبرز – ليس هو التناول الحرفي للآيات والأحاديث، وإنمّا هو فهم الوحي والتعامل معه بأدوات استقرّ المسلمون على اعتبارها، هي أصول الفقه، أي المنهجية التي تحكم تحرّك عقل المجتهد والفقيه والمفتي، ولذلك يعمد هؤلاء إلى الإجماع – وهو المجال الأقلّ إسعافا لهم – ويعملون بالقياس، فإن خشوا أن يؤدّي إلى ضرر تحوّلوا إلى الاستحسان، ثم ّ هم ينشدون المصالح فإن خافوا أن تفضي إلى مفاسد سدّوا الذرائع، ويتخلّصون من أنواع الإكراه التي تعيق تحصيل الحقوق والتزام الشرع بالحيل المقبولة شرعا.

 ولا يخفى على طلبة العلم أنّ القياس كفيل بتوفير كثير من الحلول الفقهية، لذلك يستكثر منه العلماء الراسخون – إلى جانب أخذهم بالمصالح – في معترك الاستئناف الحضاري لكسب معركة الحياة على مستوى الأمّة كلّها، وهو نقيض الجمود على الظاهر الذي يلغي المقاصد بل يتجاوز الفهم السائغ، دلالة الأقوال ليست مطلقة وإنمّا تكون وفق دلالة الأحوال، فتشير إلى الوجوب أو الندب من جهة والحظر أو الكراهة من جهة ثانية، إلى جانب مساحات أخرى يرتادها العارفون باللسان العربي من الفقهاء و المفتين، وقد ذكروا مثلا أن لكلمة “قضى” عشرين معنى مختلفا بحسب سياقها في القرآن الكريم، ولذلك فرّقوا بين معاني النفاق، فقد يكون عقديا وقد يكون سلوكيا، وأكبر وأصغر، إلى آخره.. ومن قديم حذّر العلماء من خطورة إنزال المجاز منزلة الحقيقة، فليس من اغتاب في رمضان قد أفطر كما قد يفهم من قول الله تعالى “أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا” [سورة الحجرات: من الآية 12].

مباحث الألفاظ هذه تحتاج إلى رسوخ في اللغة العربية فكيف بالمباحث التي تتلوها وتتناول النصّ في سياقه ثمّ في سياق موضوعه إلى غير ذلك مما تقتضيه منهجية الاجتهاد والفتوى، وكلّ هذا يجعل الموقف الظاهري موقفا سطحيا ساذجا يسقط مجالين من أعظم مجالات الشريعة هما المقاصد والمصالح، خاصّة مع ما اعترى الحياة من تطوّر وتعقيد وانفلات فكري ونفسي لا يمكن علاج معضلاتها إلاّ من خلال الغوص المنهجي الجريء في أعماق النصوص وروحها وكلّياتها وقواعدها ن ممّا حدا بالفقهاء أن يراعوا المصالح والضرورات وظروف الإكراه بالنسبة للأفراد والمؤسسات والأمة، ومن الواضح أنّ كل هذا يقتضي توفّر العقل المتفتّح والنفس المطمئنّة والذوق الرفيع، ويقصي من يعاني التزمّت الفكري والقلق النفسي وتبلّد الحسّ من أصناف تغلب عليها الغلظة وسوء الظنّ، مع أنّ من أهمّ ما يفضي بالعملية الاجتهادية إلى النجاح أن يفهم الفقيه الإنسان كما خلقه الله لا كما يريد له هو أن يكون، وأن يصدر فتواه في إطار حركة الحياة لا بمعزل عنها ولا عكس تيارها من باب أولى، وفي الحياة قويّ وضعيف وظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، بل في الفرد الواحد إقبال وإدبار وصعود وهبوط، وكلّهم مسلمون يتناولهم المجتهد والمفتي فيدور مع أحوالهم بعلم وذكاء وصبر وبصيرة وعطف وشفقة، وهذا ما يفرض عليه استصحاب النسبية في اجتهاده وإفتائه ليحلّ مشكلات الناس الشرعية، فإذا غفل عن قاعدة النسبية أو لم يعتبرها كان بصرامته وإطلاقاته فتنة للمسلمين والملتزمين منهم بخاصّة، فمهمّته الحقيقية تعبيد الناس لله بالحسنى لا قهرهم بتوخّي الأشدّ والأحوط في كل شيء، ولا يستطيع هذا إلاّ بالاعتماد على التفكير العلمي المناهض للركود، والجمع بين الأصالة والتجديد وإعمال العقل الحصيف في تدبّر النصوص الشرعية مع معايشة حركة الحياة.

ورغم كثرة الجامعات والمعاهد الإسلامية وخرّيجيها فإن الممارسين للاجتهاد والإفتاء بالطريقة المرجوّة قليل عددهم بينما يلتحق أغلبيتهم بالطبقة التقليدية التي أثبتت محدودية عطائها ومصداقيتها، أو تنسحب إلى ساحات التديّن الفردي، وتلك خسارة كبرى للفقه وللمشروع الإسلامي، وإنمّا ينعقد الأمل على المجامع الفقهية الحديثة النشأة مثل مجامع الفقه العالمية ومجمع فقهاء الشريعة في أمريكا والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لأنها تجمع أصحاب مؤهّلات الاجتهاد ومواصفاته من التبحّر في العلم والالتصاق بالواقع والتقوى والغيرة على الدين والتوجّه التجديدي والنزعة المقاصدية.

 بقي التنبيه على أن العمل الاجتهادي المطلوب لا يكفي أن ينصبّ على أسئلة الأفراد في ميدان الشعائر والأخلاق وحدها وإنمّا يجب أن يتصدّى لأوضاع الأمة السياسية والدعوية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وعلاقاتها الخارجية بالإجابة والتأسيس حتىّ من غير تلقّي سؤال سائل، فهذه وظيفة الفتوى الحقيقية بل هي وظيفة التجديد والاجتهاد من أجل إعادة بعث الأمة الشاهدة ببيان حقوقها وتأكيد ممارستها لها في جميع المجالات والضمانات التي تلازم هذه الممارسة في كل مراحلها، ولا يعوّل لأداء هذه المهمة على مؤسسات الإفتاء الرسمية فهي -كما لا يخفى على أحد- هيئات حكومية تعتبر الذريعة الدينية للأنظمة الحاكمة في أعين الناس تميل مع هوى الحكّام فتمارس الإفتاء الانتقائي أو تلوذ بالسكوت على الانحراف والجور في أحسن الأحوال.

تحدي العولمة

عندما ألقت العولمة بظلالها على البشرية زاد الضغط على قضية الاجتهاد، فالأمّة مرغمة على التأقلم مع أوضاع سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية ذات نمط غير مسبوق، وتريد أن تتعامل معها وفق أحكام الدين لكنّ الحلول الفقهية غير جاهزة، فتلتفت إلى العلماء تنتظر الإجابات المؤصّلة، ومنهم المنهزم أمام التحدّي الضخم لا يملك سوى المناداة بتبنّي النسق الوافد بحلوه ومرّه، يضفي عليه الصفة الشرعية بالتلفيق والانتحال، وهذه فتنة في الدين ذات وقع كبير، وتقع المسؤولية الكبرى على الراسخين في العلم الذين لا يتبنّون معيار القديم والجديد ولكن معيار الصواب والخطأ كما تبيّنه أصول الفقه.

والاجتهاد الجماعي يسعفنا من غير شكّ، وهو متيسّر في هذا العصر والحمد لله، وإنّما هو مجموعة من الاجتهادات الفردية تتلاقح وتستعين بالخبراء في مختلف التخصّصات لتخرج في ثوب أصيل قشيب يجعل طالب العلم والمستفتي وكلّ متمسّك بدينه منشرحي الصدور، واثقين من معاملاتهم، معتزّين بإسلامهم غير منهزمين أمام العولمة المتبرّجة بزخارفها.