أما مجالات عمل الاستشراق في الدراسات الإسلامية فتتمثل في أصول العقائد (القرآن والسنة) والتاريخ (السير والسيرة) والثقافة والقيم والتشريعات، واللغة العربية، والتراث الفكري والفرقي، والنبوة (الرسول والرسالة).

كذلك عمل الاستشراق – أيضًا- على العبث بالمفاهيم الإسلامية وأركان الإسلام مثل الحج والزكاة وتعدد الزوجات وما إلى ذلك “فمن حملات الحركة الاستشراقية على القرآن الزعم بأنه من خيال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأن لا علاقة له بالوحي، وأن السنة تتصادم مع العقل أو العلم والتشكيك في علومها ومصادرها، ومن الحملات على التاريخ الإسلامي: تزييف الحقائق والأشخاص، ومن الحملات الاستشراقية – أيضًا – طعنهم باللغة العربية ووصفها بالعجز عن التعبير، وبالدعوة إلى إحلال العامية بدل الفصحى، ليقطعوا الأجيال مع الزمن عن التراث.([1])

إن الاستشراق كانت له مهمتان: خارجية تتمثل في بث كل الشكوك حول حقائق الإسلام بين مثقفي العالم الإسلامي، وداخلية تتمثل في تشويه حقائق الإسلام بين الشعوب المسيحية وشبابها.([2])

ومن ناحية أخرى فالميدانان الأكثر أهمية في بدء الدرس المعرفي للاستشراق كانا اللغة العربية والعقيدة الإسلامية ثم عقائد الشرق جميعًا “حيث بدأ الاستشراق بدراسة اللغة العربية والإسلام، وانتهى – بعد التوسع الاستعماري الغربي في الشرق – إلى دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته وحضاراته وجغرافيته وتقاليده وأشهر لغاته، وإن كانت العناية بالإسلام والآداب العربية والحضارة الإسلامية هي أهم ما يعني به المستشرقون حتى اليوم؛ نظرًا للدوافع الدينية والسياسية التي شجعت على الدراسات الشرقية كما سنذكره فيما بعد.

الاستشراق: وعالم الأفكار الإسلامي

حاول الاستشراق اختراق عالم الأفكار الإسلامي بهدف تشويه الرؤية الكلية الإسلامية عبر مسارات عمله التي أسبغها بالبعد العلمي وهي في ذاتها يكتنفها كثير من الزيف والتضليل, ومن أهم الأفكار التي حاول غرسها في رؤية المسلم الكلية وبنائه الفكري ما يلي:

1 – فكرة إبعاد الإسلام عن مجال العلاقات بين الأفراد.

2 – فكرة ربط الجهاد بعهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعهد صحابته، أو فكرة إلغائه اليوم.

3 – فكرة أن الإسلام نفسه يتجدد ويخضع لعامل الزمن [وهذا غير فكرة التجديد التي لها أصالة شرعية في الإسلام] والمقصود بها هنا فهم الاسم حسب الأهواء التي تتغير بتغير الزمان والمكان.

4 – فكرة عدم التقيد بتعاليم الماضي [إهمال التراث وتضعيفه وتشويهه].

5 – فكرة أن الإسلام ليس واحدًا – كدين – ولكنه يتعدد بتعدد شعوبه وأجناسه، وبتعدد مصادره.

6 – فكرة أن الإسلام دين فردي شخصي لا يصلح أن يتدخل في علاقات الأفراد بعضهم ببعض.

منهجية الاستشراق وتحيزاته

 قام المستشرقون في دراستهم حول الإسلام باستخدام الأدوات والمناهج التي طوروها مع بداية عصر النهضة والثورة الصناعية، كما انطلقت ذهنياتهم البحثية من منطلقات “مادية” التي هيمنت على الحضارة الغربية منذ ذلك التاريخ، وتعاملوا مع حقائق الإسلام وموضوعاته ووحيه من خلال تلك المقاييس المادية التي طبقوها في العلوم الطبيعية وتوصلوا بها إلى أعلى نتائج الموضوعية والعلمية، وأرادوا خطأ أن يطبقوا هذه المناهج وتلك الأدوات على رسالة الإسلام ووحيه وقرآنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم درس المستشرقون الإسلام وموضوعاته وقضاياه وأركانه وهم معبئين بالمفاهيم الغربية وتشبعاتها بالنموذج المعرفي الغربي المادي وسياقاته الحضارية والفكرية التي تتباين كلية مع الحالة الإسلامية.

فكرة الاستشراق بالأساس تخدم أفكار الهيمنة والامبريالية والواحدية الغربية, وهذا ما يحتويه خطابه المفعم بالانتقائية “إن الاستشراق خطاب قدم الغريب والجنسي والغرائب كظاهرة قابلة للفهم والإدراك. ضمن شبكة من التصنيفات والجداول والمفاهيم، يتم عبرها وبشكل آني تعريفه والسيطرة عليه. وإذا ما عرف أمكن جعله تابعًا. لذا كان الخطاب الاستشراقي رائعًا في التحليل، سواء كان في علم اللاهوت أو الأدب أم الفلسفة أم علم الاجتماع وهو خطاب لم يشكل فقط علاقة إمبريالية. وإنما شكل – أيضًا  – حقلًا أو مجالًا للقوة السياسية. فلقد أبدع الاستشراق تصنيفًا للخصائص تم تنظيمها حول المقابلة بين الغربي العقلاني النشط والشرقي الجامد الكسول. وكانت مهمة الاستشراق هي رد تعقيدات الشرق الواسع إلى مجموعة معرفة من الأنواع والخصائص والدساتير. لذا كانت المقاطع المختارة من نصوص شرقية، والتي تقدم شرقًا غرائبيًا في جدول منظم من معلومات يمكن التوصل إليها، هو نتاج ثقافي نموذجي لسيطرة الغربي.. تحليل علاقة المعرفة، السلطة أو القوة…إن التقابل الذي يبدو كما لو كان محايدًا (غرب / شرق) إنما هو في الحقيقة تعبير عن علاقات قوة”.([3])

هذا النص الغربي شاهد على جانب من تلك التحيزات المنهجية في الدراسات الاستشراقية، والتي من مظاهرها قولبة شكل التحليل وعناصره بين: غربي نشط وعقلاني وشرقي جامد وكسول، كما يوضح هذا النص – أيضًا – زيف فكرة المحايدة والحياد في تلك المنهجية ويرى أن الامبريالية الفكرية هي الحاكمة لعمل المستشرقين وطريقتهم العلمية، كما أن علاقات القوة السياسية هي الحاكمة في العلاقات بين الشرق والغرب.

ويستشهد – أيضًا – هذا النص في موضع تالٍ بمقولة رينان حول الثقافة العلمية في الإسلام، حيث ذكر رينان في تعليق ذي دلالة عن الإسلام والعلم أن “المسلم يمتلك احتقارًا عميقًا لتعلم العلوم، ولكل مكونات الروح الأوربية” تُظهر هذه المقولة مدى التزييف المنهجي والذي يبدو في أمرين أولهما: احتقار المسلم للعلم والعلوم وهو ما يناقض الطبيعية النظرية للوحي ومكوناته ومضامينه حول العلم وأدواته والعلوم وطبيعتها وهو ما يمكن أن نلاحظه مباشرة بالإطلاع المباشر على الرسالة ومبلغها، ويناقض – أيضًا – السيرة التاريخية للرسالة والرسول والأمة، والزيف المنهجي الثاني: هو هذا الربط والترادف بين العلم والعلوم والروح الأوروبية وكأنه يستبطن؛ بل يعلن أن العلم وأوروبا وجهات لعملة واحدة، وأن أوروبا هي العلم، والعلم هو أوروبا!!!.

هذه النزعة الواحدية في عمل الاستشراق تبين من هذا الموقف المبكر الذي يروج للاستشراق الأوروبي الغربي مدى تمثل النزعة الأوروبية المركزية، التي أصبحت هي المرجعية في مناهجها وفي نتائجها حتى للشرقيين أنفسهم. وبهذا المفهوم تتكرس الثنائية التي تقوم على الذات/ المركز الأوروبي المتفوق بعلمه والآخر / الشرق المتخلف الذي لابد وأن يأخذ بما يقدمه له الأول عن ذاته أيضًا.([4])

ويرى عبد الله النعيم في كتابه الاستشراق في السيرة النبوية([5]) والذي اعتمد فيه على كتابي “محمد في مكة” و”محمد في المدينة” لوات البريطاني، وكذلك كتاب :” تاريخ الشعوب الإسلامية” لبروكلمان الألماني، وأيضًا كتاب: “تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية “لفلهاوزن الألماني – أيضًا – توصل إلى عدة نتائج منهجية أهمها: أن حيادية ونزاهة وات وبروكلمان تتفق مع الرؤية الاستشراقية على أن الإسلام تركيب ملفق من المسيحية واليهودية والمجوسية، فالتوصل بالمنهج العلمي لمعلومة صحيحة تعني أنها مقتبسة من ديانة الآخر. أما ارتباط المستشرق بالمؤثرات الضاغطة على وعيه فتجعله سبَّابًا: إن نبي الإسلام ماكر، خليج، رئيس عصابة وهكذا…واللافت في الدراسة تحديد أو إبراز المعالم الأساسية لمنهج وات وبروكلمان وفلهاوزن” الخاضعة للأسس المادية والعلمانية لمناهج الاستشراق، وقد اتبعوا في دراستهم لوقائع السيرة مناهج عديدة أهمها.([6])

1 – منهج الأثر والتأثير: هذا المنهج اتبعه غالبية المستشرقين، وبه تم إفراغ الإسلام من ذاتيته الحضارية، فأحالوه لمصادر خارجية، النصرانية واليهودية والبابلية والمجوسية وحتى الآرامية والفارسية عند بروكلمان.

2 – المنهج العلماني: الذي يستبعد فيه ظواهر دينية لا تخضع لقوانين الأجسام المادية المعروفة.

3 – المنهج المعادي: والذي يجعل للعامل الاقتصادي أهمية قصوى تفسير الواقعة التاريخية.

4 – المنهج الاسقاطي: وهو إسقاط الواقع المعاش على الوقائع التاريخية، فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة وما يعرفونه من واقع حياتهم ومجتمعهم.

5 – منهج النفي والافتراض واعتماد الضعيف والشاذ: ويتبعون هذا المنهج لإثارة الشك حيث أخذوا بالخبر الضعيف أحيانًا وحكموا بموجبهن وقدموه على المشهور حتى ولو كان شاذًا متأخرًا ومستغربًا عند النقدة.

6 – منهج البناء والهدم، حيث الإطراء والمديح ثم الطعن.

7 – المنهج الفيلولوجي: وهو التركيز على الناحية اللغوية في دراسة الوقائع التاريخية، وقد نشأ نتيجة لتخصص بعض المستشرقين في العديد من اللغات القديمة، مثل بروكلمان.

ومن القضايا التي رصدها الباحث في كتاب “الاستشراق في السيرة النبوية” والتي ركز المستشرقون على طرحها والتركيز عليها في كتاباتهم محل الدرس والبحث ما يلي:([7])

1 – التشكيك في مصداقية الوحدة الإسلامية أيام النبي (صلى الله عليه وسلم).

2 – المبالغة في وصف الطابع الإسلامي للمعارضة النفاقية.

3 – حاولت دراسة “وات” التأكيد على مشاركة المنافقين في غزوات النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى لو نفت المصادر الإسلامية هذه الوقائع.

4 – نوضح دراسة “وات” إخلاص الزعامة النفاقية للإسلام وسبقها إلى الدخول فيه.

5 – عمل فلهاوزن على إثبات الإرهاب داخل المدينة الذي بدأ بإثارة مشكلة المنافقين كما يري.

6 – أضاف “بروكلمان” و”وات” دعاوى مغرضة على حادثة الإفك.

 


([1]) فتحي يكن، العالم الإسلامي والمكائد الدولية خلال القرن الرابع عشر الهجري، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1983، طـ2، ص57.

([2]) المطعني: أوروبا في مواجهة الإسلام، القاهرة, مكتبة وهبة, ص112.

([3]) براين تيرنر: الاستشراق ومشكلة المجتمع المدني في الإسلام، ترجمة: أبو بكر قادر، مجلة الاجتهاد، بيروت، العدد 47 – 48، السنة الثانية عشرة، 2000، ص57.

([4]) محمد م. الأرناؤوط : المفهوم الأخر للاستشراق نموذج يوغسلافيا، مجلة الاجتهاد، بيروت، العدد 50-51، السنة الثالثة عشرة، 2001، ص242.

([5]) عبد الله محمد الأمين النعيم: الإستشراق ي السيرة النبوية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1997، 344ص.

([6]) محمد خير فرج : قراءة كتاب الاستشراق في السيرة النبوية، مجلة الاجتهاد، العدد 50 – 51، مرجع سابق، ص352.

([7])محمد خير فرج : قراءة كتاب الاستشراق في السيرة النبوية, مرجع سابق, ص356.