اقرأ أيضا:
شمولية مفهوم العلم في الإسلام
وفي هذا الإطار المفاهيمي يقدم الفاسي رؤيته حول مفهوم “العلم” في الإسلام والذي يراه شاملًا لكل ما يصلح حال الإنسان، ويسعى في عمران الكون، وليس فقط ما يطلق على العلوم التي ترتبط بالوحي أو السنة أو الفقه والتي عرفت في عصور التقهقر “بالعلوم الإسلامية” بينما أطلق على العلوم التي تتصل بحياة الإنسان العلوم الطبيعية (التي تتصل بالمادة) أو العلوم الإنسانية والاجتماعية ( التي تتصل بالإنسان والمجتمع) وهو تصنيف غربي بالأساس انتقل إلينا بعدما عزلت أوروبا “الدين” عن مجالات العلم “.. إن العلم في الإسلام لا يخص ما يرجع للعقائد والشرائح ولكنه يعم كل ما يمكن أن يعلم ويؤدي إلى استكمال البناء الصالح للمجتمع مما يتوقف عليه وجوده من دين ودنيا وسياسة وتقنيات وغيرها، منها ما هو فرض عين واجب على كل مكلف ومنها ما هو فرض كفاية إذا قام به من يسدون حاجة المجتمع إليه سقط الطلب عن الآخرين وإلا كانوا جميعًا متحدين في المسؤولية”.
وقد سارت الحضارة الإسلامية في عهودها الزاهرة على مبدأ المشاركة في العلوم مع التخصص في بعضها، أي أن العلماء المسلمين لم يكونوا بعيدين عن الثقافة العامة مقتصرين على ما يتخصصون فيه من العلوم. رغم عدم إهمالهم التخصص، وذلك على عكس الاتجاه الذي تسير به الحضارة الغربية الحديثة التي تجعل من المتخصصين أفذاذا فيما يتخصصون فيه بينما تبقيهم شبه أميين في المسائل العامة التي يحتاج إليها كل مجتمع لبنائه أو ترميمه وإصلاحه.
وخريجو دار الحديث[3] اليوم على رغم انصرافهم مبدئيًا بدراسة علوم القرآن والحديث وما نسميه ببعض علوم الآلة أو المسعفات، فمن الضروري أن يكونوا على بينة من التطور الذي ينشأ في المجتمعات الحديثة والتيارات المتضاربة التي يعيش فيها العصر، ومقارنة الملل والنحل الحديثة واستخراج الأدلة الناجمة من الكتاب والسنة التي تعطي المقياس الصحيح للحكم على كل ذلك والتعريف بالنافع له والضار والموافق للإسلام والمعارض له.
هذه الصفات هي التي تجعل العلماء قابلين لتحمل المهمة الملقاة على عاتقهم وهي مهمة الدعوة إلى الله، والتعريف بالإسلام الحق ومناصحة الأمة بحكامها وشعوبها بما يجب أن تسير عليه في بناء المجتمع الصالح، والحضارة النافعة والثقافة الشاملة.
التخلص من القابلية للاستعمار
ومن محاور مهمة ” الاستنفار العلمي” -أيضا- أن يقوم العلماء بدورهم في تخليص المسلمين مما وقعوا فيه من “القابلية للاستعمار” واعتبار تقدم الغرب هو نهاية العالم، وأنه لم يعد بمقدور الأمة النهوض مرة أخرى من كبوتها، مما تسبب فيما أسماه الفاسي “بعقدة سمو الغرب”.
لقد أصبح الكثير من المسلمين اليوم وفي جملتهم أهل العلم والفكر مرضى بعقدة سمو الغرب وعلومه ووسائله وانحطاط المسلمين ومعارفهم، وذلك بما بلغ إليه الغرب من تقدم حضاري وصناعي لا ينكر، ولكنه لا ينبغي أن يؤثر علينا في إيماننا بأنفسنا وبقيمة الأصالة التي لتراثنا الثقافي والحضاري على الرغم مما يغطي عليه من غبار الأجيال المنحطة والصور المنحلة والقيم المختلفة المهمة الأساس للعلماء أن ينفضوا ذلك الغبار عن تلك الجواهر الكريمة من ثقافتنا وعلومنا وحضارتنا، وأن يعتبروا أنها كانت العطاء الأصيل الأكبر للإنسانية استمد منها الغرب والشرق وبنو عليها ما أعطوه هم الآخرون من تقنيات حديثة وتطور في مواجهة الحياة والتغلب على عقباتها والتطلع إلى بناء العالم الأفضل الذي تنشده الإنسانية جمعاء، ذلك العالم الذي لا يقوم ولا يتم إلا بعودة الروح الإسلامية للمجتمع المعاصر، أي إلا إذا أصبح العلم والدين أخوين متوازيين في السير وفي الهدى للإنسانية، وهذه ثانية المهمات التي يتحملها علماؤنا الأبرار إذا قدروا العلم الإسلامي قدرة ومنوا بأنه الحق من ربهم، وبأنه الغاية من دعوة الإسلام التي لابد منها لهداية البشر وإرشاده في كل زمان ومكان.
إن المهمة الأساس للعلماء هي أن يزيلوا عن نفوسهم ونفوس المسلمين قاطبة تلك العقدة التي خلفها المستعمرون في نفوسنا حينما تغلبوا علينا واستعمروا أوطاننا وبهرتنا حضارتهم ومعرفتهم فأنستنا ما كان لنا من مجد وما في مقدساتنا من كنوز خفية لابد من أن تبرز متى أعدنا للعلم قيمته إلى جانب الين ومتى آمن بالغاية التي خلق الله الإنسان بما أنه إنسان لها، أي خلافة الله في الأرض وعمارتها، وبناء المجتمع الإسلامي العالمي فيها، وإن لنا في وصايا الرسول ومبشراته ما يجعلنا نتيقن بأن هذه الأمة ستبقى خالدة بخلود القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر:9] وليس يعني الله بحفظ القرآن بقاءه في المصاحف وفي الأوراق ولكن في الصدور وفي العقائد والشعائر والشرائح، وذلك هو المجتمع الرباني الذي يقوم على أكتاف العلماء الوارثين لرسالة النبوة وإعلامها.
ولولا أن للعلماء هذه المهمات العظيمة ولولا أن الله علم أنهم لابد أن يقوموا بها وأنهم قادرون عليها متى صمموا العزم واستمدوا من قدرة الرسول وصحبه والعلماء السابقين لهم، ما جعلهم في مقام الوراثة للأنبياء، ولما قال فيهم تعالى{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[ المجادلة:11 ] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] فقرنهم سبحانه بنفسه وبملائكته، في القيام بالقسط ونشر العدل والدعوة إليه، وقيامهم بذلك يجعلهم شهداء في الأرض بوحدانية الله مقيمين عليها الدليل والبرهان عن طريق العلم والعقل، الحكمة والفكر.
وفوق ذلك فقد أناط بهم دوام البحث العلمي واستنباط الأدلة واستخراج البراهين واكتشاف الأنظمة الإلهية في الكون وفي الحياة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28(} [ فاطر ]، وجعل لهذا البحث العلمي الدائم شروطه القائمة على السمع والبصر والعقل والقلب، على الملاحظة والتجربة في المحسوسات والنظر والفكر في المعقولات والممارسة والمجاهدة في القلبيات، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فالبحث العلمي يحتاج إلى دقة البحث والتبصر وإلى الإخلاص في تقرير النتائج الأمر الذي يستوجب الجو الصالح والحرية الكاملة وعدم تعرض الدولة أو الأفراد للحيلولة بين الباحثين ووسائل بحثهم وحرية جهودهم والإعلان عن استنتاجاتهم.
[1,2] من فلاسفة عصر النهضة الأوروبية.
[3] دار الحديث الحسنية مؤسسة تعني بالتعليم الديني في المغرب.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين