مع اتساع حركة الفتح الإسلامي، وجد المسلمون أنفسهم أمام شعوب ثقافتها أغنى بكثير من ثقافتهم، فرأوا من الحِكمة احترامها، مما أدى لنهضة فكرية عظيمة في العصر الإسلامي، عززتها حركة الترجمة من الحضارات العريقة (اللاتينية والفارسية والسريانية)، والتي تمت على أيدي مترجمين وإداريين من أبناء تلك الشعوب في الأراضي الجديدة، والتي كان السُريان في بلاد الشام والعراق من أهم مكوناتها. فقد تزعم السريان حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لمدة تزيد عن ثلاثة قرون وأكثر، فما هو الدور الذي لعبه السُريان في ازدهار الحياة الفكرية في الدولة العربية الإسلامية؟ وهل الفاتحون المسلمون سعوا لتأسيس مواطنة إنسانية (بالمفهوم الحديث) في دولتهم الجديدة؟  

عندما أتى المسلمون رحب بهم سكان المناطق المفتوحة، وكان هؤلاء السكان من المسيحيون (مصر والشام والعراق)، وتم عقد معاهدات أمان وصلح معهم، وسرعان ما اعتمد عليهم المسلمون في تسيير شؤون الإدارة والتجارة ونقل معارف، وتعريب ثقافات الشعوب القديمة. إذ لم يعاني المسيحيون عُقب الفتح الإسلامي مما عانوه أيام السيطرة البيزنطية على مصر والشام[1]؛ فكان للصراعِ المذهبي بين كنيسة بيزنطة ومسيحيي الشام والعراق ومصر دوراً في ترحيب السكان السُريان بالفاتحين الجدد، وكذلك فإن الحكام المسلمون اعتمدوا عليهم لأنهم أردوا بناء معرفةٍ واسعةٍ عن حضارة الأمم السابقة، مدركين أن الصراع معها لم ينتهي بالفتوحات، وتلك العوامل كانت كفيلة بالدور الحضاري الذي لعبه المسيحيون السُريان في الدولة العربية الإسلامية آنذاك.

يرجع الفضل في ازدهار الحركة الفكرية إلى نخبةٍ من العلماء المسيحيين السُريان الذين خدموا الخلفاء ووزراءهم في الدولة الأموية والعباسية. فكانت المحطَّةُ السُّريانية هي البداية التي انطلق منها المسلمون بعد الفتح في نهضتهم العلمية، إذ أن أغلب المؤلفات اليونانية لم تُعرب من لغتها الأصلية إلى العربية بل عُربت من السريانية إلى العربية أو من العربية إلى اللغات المختلفة.

لم يكن نقل السريان مجرد نقل من لغة إلى لغة بل كان له دلالاته الواسعة في قراءة الفكر اليوناني الفلسفي والعلمي وفق ذلك الإطار الثقافي والاجتماعي العام في كنف عهد المسلمين، مما خلق مثاقفةً لم يسبق لها مثيلٌ بين جماعاتٍ بشريةٍ متنوعة الأعراق، والمعتقدات، واللغات، وذات تجاربٍ ثقافية غنية بحيث غدا إطاراً متسارع التفاعل يُعبَرُ عن تراثه باللغة العربية الجامعة للمسلمين غير العرب، والعرب من غير المسلمين، والشعوب الأخرى من غير العرب. وحملت اللغة العربية بهذا الثراء كلَّ سماتِ اللغة العالمية[2]. في العصر العباسي، وتحديداً زمن الخليفة المأمون كانت المشاركة الفاعلة للمسيحيين السريان. حيث كان المأمون يتمتع أكثر من غيره من الخلفاء بحرية الرأي، وسعة الأفق في تفكيره، وشجع العلم، وحركة الترجمة التي أدت لنهضة عالمية، ورواد تلك النهضة هم العلماء السريان الذين أمسكوا بناصية المعرفة والعلوم بدون منازع[3].

يُعدد لنا ابن النديم أسماء العلماء والمترجمين السُّريان الذين اعتمد عليهم الخلفاء العباسيون في حركة النقول والترجمات، واستجلاب الكتب من بيزنطة بقوله” فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة  فأخذوا مما وجدوا فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنُقل، وقد قيل أن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلاد الروم … وأنفذوا حنين بن اسحق فجاؤوهم بطرائف الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والأرثماطيقي والطب ، وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئاً فنقله ونُقل له”[4].

 تزعم حركة الترجمة في العصر العباسي حنين بن اسحق دون منازع، وهو الذي ترجم أثناء توليه مديراً لبيت الحكمة[5] إلى اللغة العربية نحو مائتي كتاب من أصل أربعمائة كتابٍ قام بترجمتها، منها خمسة وتسعون كتاباً تخص جالينوس، ومئة وتسعة وأربعون كتاباً في الطب، ومئة وأربعة عشر كتاباً في الفلسفة، ومئة وثلاثة وعشرون كتاباً في الرياضيات.  وضمت أكاديمية بيت الحكمة المترجمين،النسّاخين، والخازنين، والمناولين الذين هم حلقة الوصل بين بيت الحكمة ورواده، فأصبحت ملتقى الحضارات آنذاك، وجمع في جوفه تراث البشريّة ، لتصبح الترجمة ظاهرة اجتماعيّة، وليست ترفًا أو مسألة شخصيّة تهم هذا الحاكم أو غيره، والدليل على ذلك: هو استمراريّة عمليّة النّقل لمدة طويلة، كما أصبح الأمر قضيّة دولة، ناهيك عن التمويل والعمل المؤسسي، الذي تم تتويجه في بيت الحكمة، والذي سهر على متابعة الترجمة على أسس منهجيّة، شكّلت تقليدًا علميًّا كاملا ، مهد للإبداع الحضاري العربي الإسلامي عندما توج بطلب الخليفة المأمون من الروم ان يسمحوا لوفد من العلماء العرب والسريان للتوجه الى بلادهم لجمع المخطوطات الخاصة بالطب والهندسة والفيزياء. وما هو جدير بالذكر هو أن ابن رشد كان اعتمد في شروحه على ترجمات حنين بن اسحق لاعتباره أوثق المراجع وأدقها[6].

تطور الطب في العصر العباسي بفضل السريان، فأدى ذلك إلى تحولات اقتصادية واجتماعية، حيث عم الترفُ معظم نواحي الحياة، وخفت الأمراض والأوبئة. وقد نبغت عائلات سريانية في الطب كأسرة آل بختيشوع التي بلغ أبنائها منزلةً عالية، فاقت القادة والأمراء لدى الخلفاء وزوجاتهم، ولدى عامة الناس، وكما تميز قسطا بن لوقا في الطب، وترجم مؤلفات طبية يونانية أهمها (الترياق في السموم). ونظراً لمكانتهم العالية كان الخلفاء يؤمنونهم حتى على أسرار بيوتهم[7]. وذلك خلق الغَيرةَ في نفوس الأطباء المسلمين من أقرانهم المسيحيين لشدة قربهم من الخلفاء، وأهل البلاطات السلطانية.

أثر نشاط السريان في الفن الإسلامي بشكل واضح، فطراز المباني الدينية عند المسلمين يشبه النمط السرياني والقبطي[8] . ومن نتائج ما قام به السريان أيضاً هو الإثراء العظيم للغة العربية، فنرى بعد عصر الترجمة أن العربية عرفت أساليب جديدة مكّنتها من التعبير عن الألفاظ الفلسفية والعلمية، فكان المترجمون إذا اصطدموا بعبارة ٍغامضة ترجموها ترجمةً حرفية، أما إذا لم توجد كلمة مقابل لها في العربية، فكانوا يدخلونها في العربية بلفظ أعجمي مع بعض التعديلات مثل ألفاظ: (جغرافيا، موسيقى، فلسفة، أثير، إبريز، مغناطيس)[9]. وأُغنيت معاجم اللغة العربية بآلاف الألفاظ والمعاني. كما ساهمت المعارف التي نقلها السريان وخاصة العلوم العقلية في تطور العقلية، وتوسع مدارك المسلمين في تأمل النص القرآني، والتبحر في أصول العقيدة، والدين الإسلامي، وما ذاك إلا دليل على التوائم الذي كان بين العلوم الدينية والدنيوية. وساهمت ترجمة الكتب الفلسفية عن طريق السريان في بناء النظام الفلسفي الإسلامي وبدا لنا عالمٌ جديدٌ نَشط فيه أصحاب الملل الدينية والفكرية، فماذا يمكن أن نستنتج من دور السريان في حركة الترجمة بالعصر العباسي؟

تحولت مجالس الخلفاء، إلى أنديةٍ علمية يتناظر فيها العلماء والمفكرون من كل صنف، وتَحوَّل بيت الحكمة إلى أكاديميةٍ علمية بكل معنى الكلمة، وكل شيء يُناقش بحرية ويُعرض على بساط الحوار. وبدا جلياً ذلك التعايش بين العقائد المختلفة لدرجةٍ قلما نجدها في أمةٍ أُخرى. وارتقت مكانة المترجمين إلى مكانة عالية وكان جُلهم من عائلات سوريةٍ، ومصريةٍ، وعراقيةٍ، وفارسيةٍ ليست مسلمة (مسيحية ـ يهودية ـ وثنية)، وذاك دليل واضح عن مدى الانفتاح الحضاري خلال عصر الخلافة العباسية، مما أحدث تغيراتٍ جذرية في الفكر العربي الإسلامي قروناً طويلة[10].

  

في نهاية المطاف يمكن القول: أسس السُريان للحضارة العربية الإسلامية منذ بدايتها، ولعبوا درواً عظيماً في حركة الترجمة، فأحدثوا ثورة علمية، وأسهم الخلفاء في تعزيز دورهم فيما منحوه من حماية، وأجزلوا لهم من عطاء، فأسهمت فلسفات اليونان والفرس والسريان في نبوغ جيلٍ من الفلاسفة المسلمون أبدعوا في مجال علم الكلام، وخلقت تنوعاً فكرياً ومذهبياً في الدولة الإسلامية خلال العصر الوسيط، وانتقل ذلك التأثير إلى أوروبا مع بدايات عهد النهضة عبر الأندلس وبلاد الشام وصقلية في بدايات القرن السادس عشر الميلادي. وهنا يبرز لنا أهمية عقدِ الصّلات مع اللغات والثقافات الغربية والشرقية الحديثة، وتناول جميع العلوم والمعارف العصرية، لنكون رائدين في نهضة إنسانية، يسودها الفكر ولغة الحوار والمثاقفة الحضارية مع مختلف الشعوب والأمم اليوم.    


[1]سمير عبده، دور المسيحيين في الحضارة العربية الإسلامية (دمشق: دار حسن ملص، ط1 2005)، ص 30.

[2] موسى مخّول، الحضارة السريانية حضارة عالمية (بيروت: دار بيسان، ط1 2009)، ص. ص 477 ـ 481.

[3] مخّول، المرجع السابق، ص451.

[4]ابن النديم، الفهرست، د. م، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط1 2006)، ج7، ص 304.

[5] كان بيت الحكمة في عهد المأمون بن هارون الرشيد، يمثل أكاديمية علمية مقسمة بحسب اللغات، فيه قسم الكتب السريانية، واليونانية، والفارسية، وهناك قسم للترجمة، وآخر للتأليف، وغيره للبحث الفلكي والعلمي. وكان فيه مكتبة ضخمة أنفقت عليه الدولة العباسية الكثير ليتحول إلى مجمع فكري عظيم.  

[6] عبده، المرجع نفسه، ص. ص 63 -64.

[7] عبده، المرجع نفسه، ص. ص67 ـ 68.

[8] عبده، المرجع نفسه، ص 71.

[9] مخّول، المرجع السابق، ص587.

[10]بشير التليسي وآخرون، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية (بيروت: دار المدار، ط1 2002)، ص. ص291 ـ 292.