علم التاريخ هو واحد من أهم الحقول المعرفية التي اهتم بها العرب، وقد تجلى هذا الاهتمام في وفرة المصنفات التاريخية، وتنوع مناهج الكتابة التاريخية واتخاذها صورًا غير معهودة لدى الأمم والأقوام الأخرى، وفي السطور التالية أتطرق إلى نشأة علم التاريخ لدى العرب، وخصائص الكتابة التاريخية وصورها مع ذكر المصنفات الدالة عليها.

نشأة وتطور علم التاريخ

ظهرت بوادر اهتمام العرب بعلم التاريخ منذ عصر ما قبل الإسلام، ونتج عن ذلك ظهور شكلين من أشكال المعرفة التاريخية وهما :

– الأنساب، وهي نوع من التاريخ يقوم على تتبع نسب القبائل العربية، وقد بالغ العرب في حفظ شجرة نسب القبيلة وتلقينها لأبنائهم جيلا بعد جيل حتى لا يختلط نسبها بأنساب القبائل الأخرى.

– وأيام العرب، ويقصد بها أخبار القبائل والحروب التي خاضتها القبائل، وهي بمثابة سجل مفاخر القبيلة وبطولاتها، والغرض منها تعزيز الشعور بالهوية لدى أبناء القبيلة.

وبظهور الإسلام اتخذ الاهتمام بالتاريخ منحى جديدا فلم تعد القبيلة صلب العملية  التاريخية ومحورها وإنما الدين، وفي كنف الدين نما علم التاريخ وتطور فكان أول اشتغال للمسلمين به مع حاجتهم إلى معرفة سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتوفر لهذا الغرض رجال عكفوا على جمع أخبار السيرة وتدوينها وأقدم من كتب في ذلك عروة بن الزبير بن العوام (ت: 93ه) وأبان بن عثمان بن عفان (ت:105)، ثم انتهى علم السيرة والمغازي إلى رجلين من الموالي هما محمد ابن اسحق (ت: 152ه) ومحمد بن عمر الواقدي (ت:207ه).

وفي تلك الأثناء كانت قد تمت الفتوح الكبرى وشاعت بين المسلمين أخبار الأمم والديانات الأخرى، وتوافرت أسباب شتى اقتضت جمع وتدوين الأخبار المتصلة بذلك، فتدوين أخبار القدماء دفعت إليه رغبة العلماء فهم الإشارات الواردة في القرآن والسنة، وميل خلفاء بني أمية إلى معرفة أخبار ملوك الأمم السابقة وكيف ساسوا رعاياهم، وكان تدوين الأنساب منبعه حاجة الدولة للاستعانة بها في عطايا الجند، وكان الباعث الأقوى على تدوين أخبار الفتوح الرغبة في معرفة أيها فتح صلحا وأيها عنوة لأن لكل منها حكمها من حيث الجزية والخراج، ولما دون ذلك كله كان هناك نوع آخر مستقل من الرواية التاريخية إلى جانب السيرة كان موضوعه: أخبار الأمم السابقة، وأحوال الجاهلية، وحوادث الإسلام.

منهج التدوين التاريخي

مهدت العوامل السابقة السبيل أمام تطور الكتابة التاريخية التي تعددت صورها واتسعت ولم تعد على تلك الشاكلة البسيطة التي جسدتها الأنساب وأيام العرب، وأخذت تتبلور منذ أوائل القرن الثالث الهجري ملامح منهجية اكسبتها سمات معينة، ويمكن تلخيصها في الآتي:

الإنسان صانع التاريخ، انطلق المؤرخ المسلم من مبدأ أساسي وهي أن التاريخ هو من صنع الإنسان وليس الإله بموجب مفهوم الاستخلاف، وأن حوادثه تجري وفق سنن معينة بينها القرآن الكريم ولا تسير اعتباطا وأنها تحمل في طياتها عبر ودروس ينبغي استنباطها، وذلك المبدأ يتناقض مع فكرة عبثية التاريخ والنزعة التشاؤمية التي سادت الفكر الغربي وروج لها بوركهارت، شبنجلر وتوينبي ونيتشه الذي يصف التاريخ بأنه “حكاية يرويها أبله، مليئة بالصوت والغضب لا تدل على شيء.

نفي القداسة عن التاريخ، ولما كان التاريخ من صنع الإنسان فإنه لا يمكن أن يكون مقدسا بل يمكن أن ينحرف عن مساره ويعرف طريقه نحو الاضمحلال إذا ضل الإنسان ولم يتبع الهدي الإلهي، وهذه الفكرة لا تتسق مع فلسفة التاريخ المسيحي كما نظّر لها القديس أوغسطين في كتابه “مدينة الله” الذي صور من خلاله العالم وتاريخه باعتباره تجليا لإرادة الرب، وألقت هذه الرؤية بظلالها على المؤرخين المسيحيين اللاحقين فكتبوا التاريخ كما ينبغي أن يكون وليس كما حدث بالفعل باعتباره مقدساً، وعجزت مدوناتهم التاريخية عن إدراك دور الإنسان كفاعل تاريخي.

الدين محور التاريخ، انطلق المؤرخ المسلم في تدوينه للتاريخ من اعتبار الدين لا السياسة محورا للعملية التاريخية، ووفقا لهذا المعنى فإن التاريخ هو الصراع  الممتد بين أهل الحق وأهل الباطل وليس تاريخ الملوك والحروب، وهذا الاعتبار كان يعني أمرين؛ أولهما استمرارية التاريخ وعدم إمكان وصوله إلى نهايته كما افترض فوكوياما، وثانيهما تجفيف فكرة البطولة الأحادية باعتبار الدين من صنع جماعة المؤمنين المؤازرين للأنبياء في كل عصر وليس القائد أو السياسي، ولعله مما يسترعي النظر أن تاريخ السِير الملكية تأخر ظهوره في الإسلام حتى عصر الحروب الصليبية، على حين ظهرت كتب الطبقات والتراجم في القرن الثاني الهجري.

– التأكيد على الغاية الأخلاقية للتاريخ، وهو ما أمكن للمؤرخ استخلاصه من خواتيم القصص القرآني التي تؤكد أن غايتها النهائية العظة والعبرة والتدبر فتتلافى الأجيال اللاحقة مآل ومصير الأمم السابقة وهو ما يتجلى في قوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وقوله (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)، وقد انعكس هذا على منهاجية التدوين لدى المؤرخ الذي تخير نماذجه في كتب التراجم والطبقات وفق معياري التقوى والعمل الصالح، وتجنب الترجمة لأرباب الرذائل منتهكي القانون الأخلاقي، وأما في كتب التاريخ العام فقد كان ذكرهم يأتي مصحوبا بالنقد والتحذير من المصير الذي آلوا إليه.

أنماط الكتابة التاريخية

استنادا إلى تلك المنهجية التي استبطنها المؤرخ المسلم تنوعت أنماط الكتابة وتعددت صورها، ويتعذر علينا أن نحصيها في تلك العجالة لذا سنشير إلى بعضها، وهي كالتالي:

أولا: الخبر، ويعده فرانز روزنتال أقدم صور الكتابة التاريخية في الإسلام، وهو عبارة عن سرد تاريخي لحادثة بعينها لا يزيد طولها عن بضع صفحات، فيما يعد استمرارا “لأيام العرب” قبل الإسلام، ومنذ القرن الثالث الهجري أصبحت رواية الخبر أكثر مهنية إذ سبقها ذكر ملخص للخبر، وذكر لسلسلة الرواة الذين تناقلوه. وأشهر المصنفين في هذا النوع علي بن محمد المدائني (ت:215ه) ففي عناوين مؤلفاته نجد رسائل يقتصر كل منها على خبر معركة بعينها أو وصف عمل من الأعمال.

ثانيا: المغازي والفتوح، وهي نمط من أنماط الكتابة ظهر مع حركة الفتوح الإسلامية بغرض التعرف على طبيعة الفتح، وفي كل مصر من الأمصار كان هناك عدد من الإخباريين المختصين في جمع أخباره وتدوينها كما يذكر ابن النديم في الفهرست، وأبرز من صنف في ذلك محمد بن عمر الواقدي (ت: 207ه) صاحب (فتوح الشام)، وابن عبد الحكم (ت:257ه) صاحب (فتوح مصر وأخبارها) والبلاذري (ت: 279ه) صاحب كتاب (فتوح البلدان).

 ثالثا: الحوليات، وفيها يعمد المؤرخ إلى سرد الحوادث المتعددة في العام حسب ترتيب وقوعها وهو يفتتح كل حدث بعبارة (وفي السنة نفسها)، وعلى الرغم من كونها تاريخا لا موضوعيا حيث أن الحادثة الواحدة قد تمتد إلى بضع سنين إلا أن الحوليات أتاحت للمؤرخ التخلص من الطابع الفردي للتاريخ الذي يدور في فلك القائد، وأقدم مؤلف وصلنا بهذه الطريقة هو (تاريخ الطبري) في مطالع القرن الثالث، ونظرا لضخامة الكتاب فقد افترض بعض المؤرخين المعاصرين أن الطبري لم يكن أول من طبق الصورة الحولية على الكتابة التاريخية، وأن آخرين سبقوه في هذا المجال.

رابعا: الطبقات والتراجم، وهي تصنيف إسلامي أصيل ابتكره المؤرخون المسلمون على غير نسق سابق لدى الأمم الأخرى تعبيرا عن إيمانهم بفكرة التاريخ الذي يصنعه الأفراد لا الزعامات، وكان أول ظهورها في القرن الثاني ثم كثر أنواعها على مر العصور، وقد ارتبطت في نشأتها بعلم الحديث، فقد عني المسلمون بكتابة تراجم للمحدثين كان الغرض منها التحقق من صدق الرواة وفقا لمنهج الجرح والتعديل، ثم امتدت التراجم إلى فئات أخرى مثل الصحابة والمفسرين والنحويين والشعراء والأطباء بل والمجذومين، وتطور شكلها ومنهجها فأصبحت مرتبة على حروف المعجم، وأدرجت ضمن كتب التاريخ العام على شكل ملحقات في أواخر الأحداث والسنوات، ومن أشهر من صنف فيه ابن سعد (ت:230ه) صاحب الطبقات الكبرى، وابن خلكان (681ه) صاحب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ومحمد بن شاكر الكتبي (ت: 764ه) صاحب فوات الوفيات.

خامسا: تواريخ المدن والخطط، والخطط لون من التصنيف يجمع ما بين الجغرافيا والتاريخ حيث يتناول المظاهر العمرانية في مدينة ما ويستعرض تاريخها، وتحوي كتب الخطط قدرا من المعلومات التفصيلية عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مما لا نجد له نظيرا في كتب التاريخ الأخرى، وأهم من صنف فيها المقريزي (845ه) في كتابه الخطط المقريزية، وابن عساكر (ت:574ه) صاحب تاريخ مدينة دمشق، وابن الضياء (ت:854ه) صاحب تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام.

وبالجملة، أولى المسلمون عنايتهم بعلم التاريخ منذ وقت مبكر، وأفلحوا في صوغ قواعد منهجية حكمت عملية التدوين التاريخي، وفي ابتكار صور وأساليب شتى للكتابة التاريخية لم يسبقهم إليها أيا من الأمم الأخرى.