قد يقال عند عنوان المقال :ما لنا ولابن حزم وغيره ممن هم في حكم الماضي المنتهي وليس من ضمن الماضي المستمر كما هو حال النحو والصرف الفرنسي وغيره؟

هذا عند غير المسلمين وكذا لدى بعض العلمانيين ومن في صفهم ووصفهم. أما عند ثلة من المسلمين ،المتحفظين لحد التزمت،  فمنهم من يرى أن الموضوع لا علاقة له بالعلوم الشرعية ،كما أن الحديث عن الحب والعواطف النفسية ربما هو شيء تافه لا يليق بأهل الشريعة ،وخاصة أهل السنة والحديث ،كما ينسبون إليه أنفسهم حصرا وقصرا. فالحديث عندهم قد لا يهم سوى الحديث رواية وتخريجا وتعديلا وتجريحا، أما ما دون ذلك فهو أمر لا يحتاج إليه البليد ولا ينتفع به الذكي كما يقول بعضهم.

لكن عند التأمل والرؤية العلمية العميقة نجد أن علم الحديث ومنهجه يعد من أعظم المناهج للتوظيف في البحث العلمي وكشف الحقائق وسد الأبواب على كل ناعق.ولكن بشرط حسن توظيفه واستغلاله في الوقت المناسب والأمر الحازب، وأيضا بشرط التزام الموضوعية وعدم الخلط بين المسائل كحشو وإطناب لا فائدة فيه. لو طبق في حياتنا اليومية من أجل تخليصنا من الأكاذيب الإعلامية ، والبلاغات السياسية والاقتصادية الموهمة وغيرها ، لكان أعظم مساعد ومعاضد للمجتمع ،مثقفا وغير مثقف، شعبا ودولة على حد سواء. ولكفانا عناء وسخرية الساخرين واستهتار المستهترين الذي يلعبون بأهل الدنيا والدين!

ومن بين الميادين التي يمكن توظيف علم الحديث فيها هو ميدان علم النفس التحليلي أو السلوكي معا، وكذلك علم الاجتماع القائم على الاستمارات والبيانات الإحصائية، والبحث عن صحة المعلومة بالتعقب والاستقراء.

ومن هنا كان اختيارنا في هذا المقال المتواضع لشخصية أبي محمد علي بن حزم الأندلسي نظرا لعلاقته العلمية الوثيقة بعلم الحديث وعلم النفس والأخلاق معا.

أولا : الحب كمختبر للظواهر النفسية وليس للتسلية

 إن الكتاب الذي أفرغ فيه أهم مقومات منهجه في البحوث النفسية على مستوى دراسة الظواهر،كما سبق وأشرنا هو كتابه”طوق  الحمامة”. فلقد كان بين الفينة والأخرى يبث بعض أهم أسس المنهج الذي يحدد مستوى دراسته وغايته من تأليف هذا الكتاب،وذلك إما تصريحا أو تلميحا .

ومن بين أهم الفقرات المعبرة عن منهجه في “طوق الحمامة” كقانون عام يسير عليه، نجد هذا النص : ”ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويكثرون القول فيها موفيات على وجوهها،ومفردات في أبوابها ومنعمات التفسير مثل الإفراط في صفة التحول وتشبيه الدموع بالأمطار، وأنها تروي السفار وعدم النوم ألبتة وانقطاع الغذاء جملة، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها، وإنما اقتصرت في رسالتي على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلا،على أنني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يكتفى بها لئلا أخرج عن طريق أهل الشعر ومذهبهم” .

من هنا فقد امتاز هذا الكتاب بعرض أشبه ما يكون بالدراسات النفسية الحديثة القائمة على تتبع الشخصيات ودراسة نفسيتها، ابتداء من الخبرات القائمة على التجربة الذاتية والمعاناة الشخصية وانتقالا إلى ملاحظة الآخرين والإدلاء بأخبارهم على منهج أهل الحديث والرواة،وذلك بالحرص  على اتصال السند واعتماد الثقاة في قبول هذه الأخبار.

فلم يكن اعتماده في هذا الكتاب على آراء نظرية خالصة ونظرات فلسفية معروفة ، بل إذا أورد فكرة استدل عليها بحادثة وقعت له أو رآها عمن يثق به، وذلك بتخصيص مصطلح يعبر عنه بـ ”خبر” .

 إذ حينما كتب عن الحب فقد كان واعيا بضرورة التخصص والوقوف عند حدود الموضوع، لأنه يدرس عمليات نفسية وانفعالات عاطفية لها ظواهر معينة ،وتشغل جانبا مهما وخاصا من حياة الإنسان النفسية واتجاهاته الباطنية.

 لهذا ”طوق الحمامة” لم يكن كتاب أخلاق من حيث القصد المبدئي في التأليف، ولم يكن رواية أو سردا يقف عند هذه الجوانب من حياة الإنسان، وإنما هو كتاب نفسي بالدرجة الأولى ، يدرس مشكلة جد معقدة ومهمة من قضايا الإنسان النفسية والاجتماعية وكذا العقدية.

لهذا فهو يقف عند حد هذه المسألة ولا يتعداها إلى مواضيع أخر؛ تمت إليها من صلة غير عضوية ، إلا من باب الإيماء أو إبراز وجه الرابطة بين هذا الموضوع أو ذاك.

في هذه النقطة يقول: ”ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان وصفاته المطبوعة والتطبع بها،وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعدم الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله،ولكنا إنما قصدنا التكلم فيما رغبته من أمر الحب فقط ،وهذا أمر كان يطول إذ الكلام فيه يتفنن كثيرا” .

فهو إن ذكر بعض الجوانب الأخلاقية في هذا الكتاب فإنها كانت من باب علاقتها بالحب وارتباطها به ارتباط الراحتين بالأصابع، موظفا كل طاقاته لبيان أوجه جوانب الحياة الإنسانية المتعددة وانفعالاتها أمام موضوع الحب .

فكان هذا هو الطابع الغالب على دراسته  وليس كما ذهب إليه زكريا إبراهيم من أن ابن حزم قد ” تناول موضوع الحب من وجهة نظر الأديب والشاعر والمؤرخ أكثر من تناوله من وجهة الفيلسوف والمحلل النفساني” .

فكما مر بنا أن قصده الأساسي قد كان هو تبيين الحقائق وليس عرض التواريخ والأحداث للإثارة الأدبية والخيالية،وحتى إذا وجدنا بعض  هذه المواضيع في الكتاب فإن هذا لا يعني إمكانية الاستغناء عنها في البحث  العلمي وخاصة النفسي منه..

إذ أن الشعر ما هو إلا نموذج من نماذج الاتجاهات الإنسانية ومشاعرها النفسية،وكذلك التواريخ باعتبارها حقلا تجريبيا ووسيلة فعالة لتدعيم الحقائق وتثبيت القواعد وإبراز مصداقيتها نظرا لمطابقتها لما حدث في الواقع .

صورة مقال التخصص والتحري المنهجي في البحث النفسي عند ابن حزم الأندلسي
كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي

لهذا فلا نكاد نجد في كتاب “طوق الحمامة” فكرة نظرية محضة مفصولة عن حادثة شخصية أو تاريخية أو استشهاد شعري، مما يؤكد لنا أن منهجه  في البحث النفسي هو منهج نظري تجريبي في آن واحد،قد اعتمد الملاحظة المباشرة وغير المباشرة، كما سلك منهج الاستبطان النفسي، بالإضافة على هذا فإن منهجه توثيقي ، وهو الشيء الذي يقتضي منه إيراد الأخبار المتعددة لكي يحصل على اليقين وتصير الاستنتاجات قطعية ومعضدة بالوثائق الضرورية.

ثانيا: البناء النظري على مصادر نفسية صحية

 من النصوص النموذجية التي تبين لنا قوة المنهج العلمي المتبع عنده،نذكر ما أورده حول العلة التي تكون سببا للحب: ”وأما العلة التي توقع الحب أبدا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة فالظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه،فإن ميزت وراءها شيئا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة وذلك هو الشهوة، وإن للصور لتوصيلا عجيبا بين أجزاء النفوس النائية” .

فبعدما أرسى الأسس النظرية في تحديد الحب وطرق تثبيته سيستطرد في إيراد النماذج المأثورة والأحداث المعضدة لهذا المذهب النظري، ثم يختم دراسته بأبيات شعرية مناسبة وملخصة لما كان بصدد البحث فيه.

هذه الأبيات كلها ذات معاني علمية أكثر منها خيالات وبحور وهمية، نذكر من بينها أبيات هذه القصيدة النفسية التي كان البعض – كما يذكر- يسميها “الإدراك المتوهم”:

ترى كل ضد به قائما ** فكيف تجد اختلاف المعاني

فيا أيها الجسم ذا جهات ** ويا عرضا ثابتا غير فان

نقضت علينا وجوه الكلام ** فما هو مذ لحت بالمستبان

بهذا أمكن القول بأن المنهجية لديه شكلت بحثا علميا  موضوعيا ذا آفاق معرفية هادفة، وليس سيرة ذاتية بالمعنى القصصي أو الإخباري؛ الغاية منه إطراب الخواطر كأحاديث السمار، وإنما هي سيرة ذاتية بناءة تحكي عن نفسها وعن غيرها لكي تقيم نظرية أو تصدر كلمة تمثل الجنس البشري ونوعه وكذا الحيوان والطيور كما يروم له عنوان “طوق الحمامة في الألفة والألاف” …

فعندما يصب اهتمامه على دراسة شخصية معينة من أجل إقامة بناء نظري فإن اختياره لها كان يقوم على اعتبارات ضرورية حتى تكتسب نظريته قوة ومتانة ولا تكون عرضة للخلل أو الاتهام أو المراجعة النقدية.

فمن صفات الشخصيات  التي اعتمدها في دراسته هم أناس:”لا يتهمون في تمييزهم ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم ولا اختلال لحسن اختيارهم ولا تقصير في حدسهم، قد وصفو أحبابا لهم في بعض صفاتهم بما ليس يستحسن عند الناس  ولا يرضى في المجال، فصارت هجيراهم وعرضة لأهوائهم ومنتهى استحسانهم ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان تفضيلها على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها بل صارت تلك الصفات المستجادة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم حنينا منهم إلى من فقدوه، وألفة لمن صحبوه وما أقول أن ذلك كان تصنعا لكن طبعا حقيقيا واختيارا لا دخل فيه ولا يرون سواه ولا يقولون في طي عقدهم بغيره”.

“…وما أصف من منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطا في الإدراك والدراية ! ” .

على هذا الأسلوب سار في إقامة دعائم دراسته في الكتاب، وكثيرا ما كان يذكر الشخص المستشهد بحالته النفسية أو العاطفية الخاصة مقرونا بذكر مكانته العلمية أو الاجتماعية وصحته النفسية العامة قبل حدوث  تلك الأعراض لديه، وذلك كي يبرهن للقارئ بأن هذه الفكرة أو تلك ليست وليدة التخمين والرمي في عماية ، وإنما هي نتاج درس تحقيقي وواقعي كأقصى ما يمكن أن تمثله الموضوعية  العلمية.

هل لنا من مراجعة موضوعية لمناهجنا أم أننا نستحلي القيل والقال وسرعة الاتصال لفرض التوهم وزيف الآمال؟