هناك وهمٌ كبير يعيشه كثير من الناس. أولئكم الذين تكوّنت لديهم نوع من الحساسية تجاه القيل والقال. بمعنى أن تصرفاتهم وسلوكياتهم تتأثر بكلام الناس. إن سمع أحدهم مدحاً وإطراءً منهم، هش وبش. وإن سمع ذماً وقدحاً، اغتم واهتم، حتى لو كان هو على صواب. لكن طالما جاءه الذم من الناس، وجاءته سهام النقد منهم، فلابد أنهم على صواب وهو المخطئ، أو هكذا يصير الاعتقاد عنده.
فكم منكم يعتبر نفسه من هذه النوعية؟

كثيرون منا تجدهم يقدمون رضا الناس على رضاهم الداخلي. بمعنى آخر، أحدنا لديه الاستعداد أن يتحمل ضغوطاً نفسية هائلة من أجل ألا يتخذ الناس موقفاً سلبياً منه، رغم علمه وفي قرارة نفسه وفي مواقف كثيرة، أنه على حق مبين، وأن ما يقوم به الآن مع الناس، لكسب رضاهم وودهم، هو الخطأ بعينه.. فلماذا يحدث هذا التناقض عند البعض منا؟

هذا التناقض قد يكون نتيجة طبيعية لفقدان الثقة بالنفس. فهذا الشخص تجده دوماً يعتقد أن الآخر هو الأفضل والآخر هو الأجود والآخر هو الأنفع. أما هو ذاته، فعلى العكس من ذلك تماماً. لماذا؟ لأن فقدان الثقة ولوم الذات والحط من قدر النفس، كلها نتائج طبيعية لمفاهيم مغلوطة ترسخت في الوجدان والأذهان منذ زمن بعيد، بفعل عوامل تربوية واجتماعية ونفسية عديدة تعرض لها في البيت والمدرسة والجامعة والعمل وبيئات أخرى محيطة..

إن يتبعون إلا الظن

لو تتأمل قوله تعالى في سورة الأنعام {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله. إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون} ستدرك أن الجموع التي تحكم على أفعالك وأقوالك، ليست معياراً تستند إليه. لماذا؟ لأنهم ” لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله – كما جاء في ظلال القرآن – ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله. ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه.

ومن ثم كانوا – كما هو الحال اليوم – في ضلالة الجاهلية؛ لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه؛ ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال. كانوا – كما هم اليوم – يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس. والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال.. وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله.. هكذا على وجه الإجمال”.
وقف الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – عند عمه أبو طالب وهو في سكرات الموت، كي ينطق الشهادة ويموت مسلماً يختم بها أعماله الجليلة مع المسلمين، وكان زعيم الكفر أبوجهل حاضراً حينها أيضاً، وكان يجتهد في الوقت ذاته ويضغط على أبي طالب ألا يخرج عن ملة آبائه، فكان يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهكذا كان أبوطالب بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين فرعون هذه الأمة. كل منهم يحاول معه، حتى غلبت على أبي طالب حساسية القيل والقال، فكان آخر ما نطق: على ملة عبد المطلب! ومات مشركاً.

رغم كل الجهود والأعمال العظيمة التي قام بها أبوطالب مع رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه لم يسلم، وظل على دين آبائه حتى أسلم الروح، ولم يكن من سبب يدفعه إلى ذلك سوى الخشية من ملامة الناس وكلامهم، وخشي أن تقول قريش بأنه جزع وخاف عند موته فأسلم، أو كما اتفقنا على تسمية مثل هذه الموقف، بحساسية القيل والقال.

النهايات غير السعـيدة

قصة وفاة أبي طالب، نموذج يبين لك كيف يمكن أن يؤدي الاهتمام الشديد والمبالغ بكلام الناس دون وجه حق، إلى نهايات غير سعيدة. لا أقول هاهنا بتجاهل ما يقوله الناس تماماً، ولكن نأخذ منهم في حدود المعقول وضمن إطار الحق، لا أن أسمع لهم على حساب الدين والأخلاق والمبادئ. عش حياتك كما يحب الله ورسوله، حتى لا تندم عليها خشية كلام الناس !
إن العامة – كما يقول الشيخ الغزالي – “مع صاحب الدنيا ولو كان زنيماً، والألسنة في إعلاء شانه، قلّما تفترُ، رغبة أو رهبة. ولذلك قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد، أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه، سلبته محاسن نفسه!

إنك إن حرصت على إرضاء فلان وعلان، فمن المؤكد أنك ستصل إلى نهايات غير محمودة والى طرق مسدودة، باعتبار أن البشر أمزجة وأهواء، فقد تُرضي هذا وتُخالف آخر ولن تصل إلى نتيجة مرجوة نهاية الأمر. أما حين تكون غايتك إرضاء الله واتباع الحق، فتأكد أنك ستصل إلى نهايات حميدة وإن خالفت الناس، كل الناس، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك، فاترك ما لا يُدرك وأدرك ما لا يُترك، كما قال ابن قيم الجوزية.

زبدة الكلام

من المهم أن ندرك جيداً أن استجداء رضا الناس أو استحسانهم لأفعالنا وأقوالنا، لن يحدث بالسهولة التي قد نتصورها، وبالتالي سيظل أحدنا، إن كان من تلك النوعية، رهين رضا الناس. فقد ينال رضاهم، وربما لا ينالها البتة. وارتهانه هذا لرضا الناس، سيعطل بالتالي قدراته وإنتاجه، انتظاراً لمواقف الآخرين منه ! ولكن رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي. هكذا يكون الموقف أو التعامل الإيجابي مع الآخرين.

ليكن في علمك يا من تشعر بنقص الثقة بنفسك، أنك لن تقدر على أن تفهم الناس كل الناس، بل ليس مطلوباً منك أن تفهمهم، كما أنه بالمثل لن يفهمك الناس وليس مطلوباً منهم أن يفهموك، فلم الجهد والنّصَب إذاً وانتقاد الذات في حال حدوث سوء فهم، سواء منك لهم أو منهم لك؟ وهذا المفهوم إن استوعبته تماماً، سيجعل منك إنساناً مرناً في مثل تلكم المواقف، وستدعها تمر بسلام وتجد نفسك لا تقف عندها طويلا.


من طريف ما جاء عن الإمام الشافعي ضمن هذا السياق، نختم به موضوعنا. قال: ضحكتُ فقالوا ألا تحتشم؟ بكيتُ فقالوا ألا تبتسم؟ بسمتُ فقالوا يُرائي بها. عبستُ فقالوا بدا ما كتم. صمتُّ فقالوا كليل اللسان، نطقتُ فقالوا كثير الكلم. حلمتُ فقالوا صنيع الجبان ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ فقالوا لِطَيش به وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون شذ إن قلتُ لا، وإمّعة حين وافقتهم. فأيقنتُ أني مهما أرد رضى الناس لابدّ من أن أُذم.