القدوة مهمة في التربية، وبدونها تصبح العملية التربوية ناقصة ومبتورة، إذ لا تكفي الكلمات والمواعظ لصلاح الإنسان، فلابد للشخص أن يرى تلك الكلمات سلوكا متجسدا في الحياة، لذا عندما وصفت عائشة –رضي الله عنها- النبي-صلى الله عليه وسلم- فقالت:”كان خلقه القرآن”، إذ تحولت تعاليم القرآن إلى تخلق وسلوك.

ولعل من حكمة الخالق-سبحانه وتعالى- أن جعل الأنبياء من البشر، لأن ذلك يكفل التأسي والاقتداء واتباع التعاليم وتحمل التكاليف، إذ لو كان الأنبياء من جنس آخر، فإن البشر كانوا سيفتقدون القدوة، ولتهربوا من التكاليف، قال تعالى:”وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ”(1)، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: “كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى، الرسولَ إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة “، ولذلك احتلك القدوة (2) أو “الأسوة الحسنة” موقعها في القرآن الكريم، ومن يطالع القرآن يجد أن مفهوم “الأسوة الحسنة” جاء في سياقين، أحدهما يتحدث عن النبي-صلى الله عليه وسلم– في قوله تعالى :” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا “(3)، وفي سياق الحديث عن “إبراهيم” عليه السلام، في قوله تعالى:” قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ”(4).

حاجة إنسانية

القدوة حاجة إنسانية، وضرورة تربوية، وغيابها في عملية التربية بالقدوة أزمة، كما أن وجود قدوة يخالف قولها ما تفعله، يعد أزمة أشد في عملية التربية، وربما هذا ما أِشار إليه عالم التربية الأمريكي:” جون هولت” John Holt  في كتابه “كيف يفشل الأطفال” How Children Fail، بقوله: “”ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء، فقد ولدوا أذكياء، كل ما علينا فعله هو التوقف عن فعل الأشياء التي جعلتهم أغبياء”، فالقدوة هي التي تنفخ الروح في الكلمات والمواعظ، وتجعلها حية.

 كان للتجربة الصوفية تأثير عميق في تشكيل الوعي والسلوك، لأنها قرنت المواعظ بالاقتداء السلوكي، فيما عرف بالعلاقة بين الشيخ والمريد، إذ لابد للسالك لطريق التصوف أن يكون له شيخا يقتفي أثره، ولذلك كان أحد أعلام الصوفية، مثل “أبو علي الدقاق” يقول:” الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس، فإنها تورق لكن لا تثمر”، أما الفقيه الصوفي ” أحمد زروق” فيقول: “أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذه دونهم”، فبدون القدوة تصبح الكلمات جوفاء، فالقدوة هي التي تجعلها ممتلئة قادرة على البقاء والاستمرار، لذلك كان تجربة التعليم في الخبرة الإسلامية ذات تأثيرات عميقة، إذ جمعت بين التعليم والاقتداء، فكان الطالب يلازم شيخه آخذا عنه علمه وخلقه وسلوكه، وهو ما جعل التاثير ليس فقط في بناء العقل، فقط، ولكن يمتد إلى التأثر الأخلاقي.

و في إطار الحديث عن التربية بالقدوة، كان “أبو حامد الغزالي” يرى أن وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل، لأن ذنبه ومعصيته ممتدة، إذ تقود معصية العالم والفقيه إلى تدمير قيمة الدين ذاته، لأنه أفقد الدين نماذجه البشرية الحاملة لقيمه وتعاليمه، ولهذا كان الإمام علي” يقول: ” قُصم ظهر رجلان؛ عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه” ” وكان أعلام التصوف والتربية يرون أن الشيخ إذا فقد ميزة الاقتداء أصبح خطرا محدقا، وفي هذا يقول “ابن عطاء الله السكندري”: “لا تصحب من لا يُنهضك حاله، ولا يدلك على الله مقالة”، فالتجربة التربوية الصوفية تُقر بالتلازم بين الحال والمقال، أي بين العلم والعمل.

القدوة العالية

في كتابه “وعاظ السلاطين” يرى الدكتور “علي الوردي” أنه وضع قدوات عالية قد ينعكس سلبا في الاقتداء، إذ يجعل الاقتداء، عملية بالغة الصعوبة، وقد يترك الشخص التخلق والاقتداء لاستحالته، في حين يطرح آخرون فكرة التعريف بالنماذج السيئة، الذين يجب ألا يُقتدي بهم، يقول البروفيسور “نسيم نيكولاس طالب”: “يركز الناس على القدوة، وقد يكون من الأفضل العثور على نماذج مضادة، أشخاص لا تريد أن تشبههم عندما تكبر “..لأن “خيبات الأمل تكون أسوأ عندما تكون ناجمة عن الأشخاص الذين يجب أن يكونوا قدوة لك”، أو كما جاء في إحدى النصائح: “إذا كنت لا تستطيع أن تكون مثالًا جيدًا، فعليك فقط أن تكون تحذيرًا مروعًا”.

لكن هناك تحذير نبه إليه الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” قد يعمق مفهوم القدوة السيئة في المجتمعات الحديثة بطرحه نماذج للقدوات المادية، التي ترسخ مفهوم الإنسان الوظيفي،الذي تم اختزاله في الجانب المادي فقط، فيقول:”يُلاحظ في المجتمعات العلمانية الحديثة الترويج لنماذج بشرية مختلفة يكمن وراءها نموذج الإنسان الوظيفي: أحادي البعد، الذي تم اختزاله إلى مبدأ واحد، وتم تجريده من كل خصائصه الإنسانية المركبة المتعينة، بحيث يمكن تعريفه في إطار وظيفته التي يضطلع بها، وفي النظم الاشتراكية، كان هناك دائما بطل الإنتاج الذى كانت كفاءته وانتاجيته تفوق كفاءة وانتاجية أي إنسان سوي، فهو إنسان توحد تماما مع وظيفته، وأصبح إنسانا وظيفيا يكتسب معنى وجوده من الكم الذي ينتجه من سلع.

أما فى المجتمعات الرأسمالية، فقد ظهرت أسطورة الإنسان العصامى الذى يصعد من الرأسمال إلى الثروة الرأسمالية، وهذا العصامى هو إنسان نجح في ترشيد حياته تماما في إطار الربح الاقتصادي والتراكم الرأسمالي، فراكم الثروات الهائلة وقمع ذاته تماما”، ويرى المسيري أن هذا النموذج من القدوة مستحيل من الناحية الإنسانية، لأنه يجرد الإنسان من كل ما هو إنساني، ويفترض أنه إنسان بلا أسرة ولا جيران ولا مشاعر.

والقدوة في المجال الأسري تأثيرها عظيم، ومن يطالع سير العظماء سيجد أن جزءا كبيرا من القدوة والأخلاق تحصلوا عليها من أسرهم، بفعل الاقتداء بالأب أو الأم، وهناك من نصح الأب قائلا: “لا تدع لقمة العيش تمنعك من صنع الحياة”، فالابتعاد الكثير للأب عن البيت قد يُوجد فراغا في القدوة، وقد يكون أحد مسببات الأزمات التي تشهدها الأسرة المعاصرة في العالم، فالجميع مشغول، وهو ما يجعل الأطفال والصغار يبحثون عن أي قدوة للسير خلف تأثيرها، دون أن يمتلكوا أية معايير لتحديد القدوة الجيدة أو السيئة، ولهذا كان ” جون وودن ” John Wooden أحد الشخصيات ذات التأثير في المجتمع الأمريكي يقول”أن تكون نموذجًا يحتذى به هو أقوى أشكال التعليم” ، وكان ” فرانسيس بيكون”-أحد الشخصيات المؤثرة في الفكر الغربي- يقول: “من يعطي النصيحة يبني بيد واحدة، ومن يعطي المشورة والمثال الجيد يبني بكليهما، لكن الذي يعطي عتابًا جيدًا ومثالًا سيئًا، يبني بيدٍ ويهدم باليد الأخرى”.

 تقول الحكمة العربية: “حال رجلٍ في ألف رجل خير من قول ألف رجلٍ في رجل”، فالقدوة تقتضي المطابقة بين القول والفعل، في كتابه “مضاد للكسر” Antifragile ”  يحكي “نسيم نيكولاس طالب” عن تجربة التعليم في سويسرا، ويذكر أن مستوى التعليم الجامعي فيها منخفض مقارنة ببقية الدول الغنية، لأن نظامها، حتى في العمل المصرفي، قائم على مسألة “التلمذة المهنية” بدلا من النماذج النظرية، أي أن الخبرة تنتقل من خلال القدوات في العمل (أي معرفة: كيف)، وليس من مجرد مطالعة الكتابات النظرية (معرفة: ماذا).

وفي مقال طريف، يشير إلى دور القدوة في الاختراعات وتثبيت قيم التفكير الايجابي، فالصغار عندما يُحكي لهم سير المخترعين، وكيفية مقاومتهم للفشل، وقدرة المبدعين على التفكير بطريقة مختلفة ومبتكرة، فإن الأطفال يتأثرون بتلك النماذج فتقوى عزائمهم، ويشير المقال أنه في إحدى الدراسات، تتبع علماء النفس تأثير القصص الإيجابية على الأطفال الأمريكيين من عام 1800 إلى عام 1950، فلاحظ الباحثون أن تلك القصص الايجابية زادت بنسبة 66%  في الفترة عام 1810 إلى عام 1850 ، وأن ذلك انعكس في براءات الاختراعات التي زادت سبعة أضعاف في الفترة من عام 1850 إلى عام 1890، وبالتالي فالقدوات غير التقليدية في التفكير والنماذج التى طرحتها القصص، فتحت أذهان هؤلاء الصغار على ضرورة عدم التوقف أمام الصعب وضرورة تجاوزها، فالقدوة أقوى من الكلمة.


1- سورة “الأنعام”: الآية: 9

2- تشير اللغة أن القدوة هي :” أصل البناء الذي ينشعب منه تصريف الاقتداء “، وعرفها “الراغب الأصفهاني”: “الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًّا وإن ضارًّا “

3- سورة الأحزاب: الآية: 21

4- سورة الممتحنة: الآية: 4