للأمم والشعوب حال نهضتها أو تراجعها، سنن وقوانين تحكم حركتها نحو الصعود أو الهاوية، وتوجه سلوكها إلى الرشاد أو التيه .. فما موقع الترف من ذلك؟ وهل الترف شأن مالي يقف عند حدود التبذير والإسراف، أم يتعدَّى إلى استتباع جملة من القيم والسلوكيات؟ وهل موقف القرآن الكريم من ذم المترفين يعكس موقفًا سلبيًّا من المال ومن التنعم بأفضال الله تعالى؟

مادة “التَّرف” في معناها اللغوي تدول حول النِّعَم. فـ”التَّاءُ وَالرَّاءُ وَالْفَاءُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ التُّرْفَةُ. يُقَالُ رَجُلٌ مُتْرَفٌ مُنَعَّمٌ، وَتَرَّفَهُ أَهْلُهُ إِذَا نَعَّمُّوهُ بِالطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالشَّيْءِ يُخَصُّ بِهِ” ([1]). والترَفُ: التَّنَعُّمُ، والتُّرْفةُ النَّعْمةُ، والتَّتْريفُ حُسْنُ الغِذاء. وصبيٌّ مُتْرَفٌ: إذا كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلاً. والـمُتْرَفُ: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه ([2]).

إذن المعنى اللغوي للترف يدل على النعمة والتنعم والسعة. وأن المترف هو المنعَّم، أو من أطغته النعمة. أي أن المعنى اللغوي لا يعني بالضرورة موقفا سلبيًّا من النعمة ومن التمتع بها.

موقفان من الترف

وقد أشارت مادة الترف في القرآن الكريم إلى هذين المعنيين السابقين؛ معنى التنعم، ومعنى الطغيان بالنعمة وإساءة استعمالها. جاء في (المفردات):  التُّرْفَةُ: التوسع في النعمة، يقال: أُتْرِفَ فلان فهو مُتْرَف. {أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} (المؤمنون: 33)، {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} (هود: 116)، وقال: {ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} (الأنبياء: 13)، {وأَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ} (المؤمنون: 64)، وهم الموصوفون بقوله سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} (الفجر: 15) ([3]).

وهنا نلاحظ أن قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116) قد جمع المعنيين السابقين: التنعم بالنعمة، والطغيان بها؛ ففي الآية الكريم يخبر الله تعالى أنه أنعم على قوم، لكنهم ظلموا واتبعوا ما نُعِّموا فيه، أي صاروا تابعين له لا مسخِّرين إياه فيما يرضاه الله؛ فكانوا من المجرمين الذين لا يشكرون النعم ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر!

جاء في (التحرير والتنوير): “وجُمْلَةُ {واتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} مَعْطُوفَةٌ عَلى ما أفادَهُ الِاسْتِثْناءُ مِن وُجُودِ قَلِيلٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ، فَهو تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْناءِ وتَبْيِينٌ لِإجْمالِهِ. والمَعْنى: وأكْثَرُهم لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الفَسادِ ولَمْ يَنْتَهُوا هم ولا قَوْمُهم واتَّبَعُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ”.

ثم يبين ابن عاشور معنى “الاتباع” في قوله تعالى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}، بأنه: الِانْقِطاعُ لَهُ والإقْبالُ عَلَيْهِ إقْبالَ المُتَّبِعِ عَلى مَتْبُوعِهِ. و{أُتْرِفُوا}: أُعْطُوا التَّرَفَ، وهو السَّعَةُ والنَّعِيمُ الَّذِي سَهَّلَهُ اللَّهُ لَهم فاللَّهُ هو الَّذِي أتْرَفَهم فَلَمْ يَشْكُرُوهُ. {وكانُوا مُجْرِمِينَ}: أيْ في اتِّباعِ التَّرَفِ فَلَمْ يَكُونُوا شاكِرِينَ؛ وذَلِكَ يُحَقِّقُ مَعْنى الِاتِّباعَ لِأنَّ الأخْذَ بِالتَّرَفِ مَعَ الشُّكْرِ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أنَّهُ اتِّباعٌ ([4]).

إذن هنا موقفان:

• أناس أنعم الله عليه بنعمه، ويسَّر لهم سبل الراحة والتنعم؛ لكنهم بطروا وأساءوا استخدام هذه النعم، ورضوا بأن يقفوا منها موقف التابع أو المتَّبِع من متبوعه! فظلموا وكذبوا..

• وآخرون أنعم الله عليهم، فقاموا بحق النعم، وسخَّروها فيما يُرضي الله ولم يدعوها تقودهم وتوجههم! فشكروا الله تعالى واتبعوا أوامره..

وهذا دال على أن الإسلام لا يقف ابتداءً من المال موقفًا سلبيًّا، ولا يذم المال في حد ذاته؛ وإنما ينصب حكمه على “الموقف من المال”، وليس على المال.. لأن المال هو نعمة يُنعم الله تعالى بها على عباده؛ فمنهم من يقوم بصيانتها من التبذير والإسراف- وقبل ذلك لا يكسب من حرام- ثم يؤدي حق الله تعالى في هذا المال من الزكاة والصدقة ووجوه البر والتوسعة على خلق الله. فهذا موقف محمود يؤجَر صاحبه عليه بالبركة في الدنيا وبالثواب الجزيل يوم القيامة. وفي الحديث قال النبي لعمرو بن العاص: “نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ” (أورده الألباني في “صحيح الأدب المفرد”).

وفي مقابل ذلك، هناك من يركن إلى النعم، أو بالمفهوم القرآني “يَتبِعُها” وتصير هي إمامًا له! فيصاب بالبطر والتعالي والتفاخر.. ويحمله حب المال على مخالفة الأوامر ومقارفة النواهي؛ فإذا أُمر لم يأتمر، وإذا نُهي لم ينته! ولهذا جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الإسراء: 16)، أي: أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج عن ابن عباس، وقاله سعيد بن جبير أيضًا ([5]).

الترف والتكذيب

كما نلاحظ هنا أمرًا آخر، هو ما ورد في القرآن الكريم من اقترن الترف بتكذيب الرسل! وذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون: 33). وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ: 34). وقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23).

فالطبقة المترفة تتحدد طبيعتها أولاً طبقًا لمعيار المال، أي هي من حازت قدرًا كبيرًا من النعم، يجعلها في دعة ورفاهية وتنعم.. ثم تكتسب تبعًا لهذا الموقف من المال، ولاستخدامه استخدامًا سيئًا، في الكسب والإنفاق.. تكتسب صفاتٍ سلبيةً تصير من خصائص هذه الطبقة المترفة؛ من تكذيب رسل الله، وعدم الانصياع لأوامره ونواهيه، ومن التعالي على العباد والنظر إليهم مِن عَلٍ!

الترف وهدم الحضارة

ولهذا، قرر ابن خلدون أنه “أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة، أقبلت الدولة على الهرم. وجعل الترف من خصائص الجيل الذي يمثل دور الشيخوخة للدول؛ فقال: “فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة [الرديء من كل شيء] وعوائدها، كما يأتي في فصل الحضارة؛ فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولةَ مبادئُ العطب، وتتضعضع أحوالها، وتنزل بها أمراضٌ مزمنة من الهرم إلى أن يُقضَى عليها ([6]).

إذا أدركنا ذلك علمنا أهمية التحذير من الترف، وخطوة أن ينحصر خطابنا الديني بشأنه في “الجانب الأخلاقي”، أي تحريم الإسراف والحث على الاقتصاد؛ لنلتفت- مع هذا- إلى الجوانب الاجتماعية والحضارية التي تستدعيها مرحلة الترف، وتمثل خطورة على القيم والمفاهيم، وتنشئ أجيالاً لا تقوى على مجابهة الحياة، ولا تسهم في دفع عجلة الحضارة..

فالترف ليس شأنًا ماليًّا خالصًا، وإنما هو أيضًا شأنٌ اجتماعي وثقافي وحضاري..!


([1]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 1/ 345.

([2]) لسان العرب، ابن منظور، 9/ 17.

([3]) المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، ص: 166.

([4]) التحرير والتنوير، ابن عاشور، 12/ 185، 186.

([5]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 5/ 61.

([6]) المقدمة، ابن خلدون، ص: 1/ 210، 212.