لقد اهتم علماء أصول الفقه بمبحث مسالك التعليل وطرقه اهتماما بالغا، نحو التعليل بحرف الباء ودلالته، وقد أولوه عناية كبيرة؛ لما له من أهمية قصوى في عملية فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، وكذلك في تعليل أحكام الشريعة ومعرفة أسرارها ومقاصدها الجليلة.

والناظر في نصوص الشرع يجد أنها نوّعت من أساليب التعليل ومسالكه، ولم تسير على منوال واحد؛ حتى لا تسأم النفوس، وتمل الأسماع، فمرة القرآن الكريم يذكر وصفا مرتبا عليه حكما، فيفهم السامع أن هذا الحكم يدور مع ذلك الوصف أينما وجد، نحو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

 وأخرى يذكر مع الحكم سببه، مقرونا بحرف السببية مقدما أو مؤخرا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وطورا يأمر بشيء ويردفه بوصفه بأنه أطهر أو أزكى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30].

 وحينما يذكر الحكم معللا إياه بحرف من حروف التعليل، وهنا تكثر الأنواع وتتعدد، مثال ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. [الأحزاب: 37].

وفي مواضع كثيرة يأمر بالشيء مبينا مصالحه، أو يحرم الشيء مبينا مفاسده المترتبة على فعله، كقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108][1]، وهذا الأمر ينطبق على السنة النبوية كذلك في بيان طرق التعليل ومسالكه[2].

وقد تحدث أهل اللغة على غرار الأصوليين عن معنى التعليل في القسم المتعلق بحروف المعاني، سواء في التأثير الإعرابي أو المعنوي في تراكيب الكلام، وذهب البعض في هذا السياق إلى أن اللام هو الحرف الأصلي لمعنى التعليل، وأفادها حروف أخرى كالباء والفاء وغيرهما.

وبحثنا هذا سيتناول حرفا من حروف المعاني وهو الباء في دلالته على التعليل بين النحاة والأصوليين؛ نظرا للاختلاف العلماء فيه، وما يثيره من إشكالات عديدة من قبيل هل هناك فرق بين الباء السببية والتعليلية؟ وهل الباء صريحة في التعليل أم لا؟ وما الفرق بينها وبين باء الاستعانة؟ وهل هناك أوجه الاتفاق والافتراق بين النحاة والأصوليين في ذلك؟ هذا ما سيحاول البحث تجليته وتوضيحه بحول الله وقوته.

1-حرف الباء ودلالتها على التعليل عند النحاة.

  ذكر النحاة أن للباء المفردة أربعة عشر معنى[3]، ومنها السببية، نحو: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، ونحو: عاقبت زيدا بسوء عمله، أي: بسبب سوء عمله، وهي تأتي لمعنى التعليل[4]، لكن علماء العربية اختلفوا في الفرق بين الباء السببية والتعليلية على مذهبين، نجملهما فيما يلي:

القول الأول: لا فرق بين باء السببية وباء التعليلية، وتبنى هذا الموقف العديد من علماء العربية؛ لأنهم جعلوا مصطلحي التعليل والسبب في حروف المعاني بمعنى واحدا، ولذلك اكتفوا بباء السببية واسقطوا باء التعليل[5]، وممن قال بأن الباء السببية والتعليلية شي واحد ولا فرق بينهما الإمام أبو حيان والإمام السيوطي وغيرهما[6].

القول الثاني: أن هناك فرقا بين باء التعليلية والسببية.وممن ذهب إلى هذا القول ابن مالك[7]، وقد حدد ضابط وشرط مجيء الباء للتعليل، وهو أن يصلح غالبا في موضعها اللام، نحو قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، وقوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160].

وكقول الشاعر: ولكنَّ الرَّزِيّةَ فَقْدُ قَرْم … يموتُ بموته بَشَرٌ كثيرُ[8].

 واحتزر بقوله غالبا من قول العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حي. وغضبت به، إذا غضبت من أجله وهو ميت[9].

وممن صرّح بأن معنى السببية والتعليلية في الباء معنيين مختلفيين كذلك الإمام الأشموني، فمثل للسببية بقوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، والتعليلية بقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [البقرة: 160][10].

  وعبر بعض النحويين عن باء السببية بباء الاستعانة، ومثلوا لذلك بـ: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، وقد رجح كثير من النحويين ومعهم بعض الأصوليين التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى؛ لأن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز[11].

2– حرف الباء ودلالتها على التعليل عندالأصوليين.

قرر الأصوليون على غرار النحويين أن التعليل معنى من المعاني، والأصل فيه أن تدل عليه الحروف كبقية المعاني، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال وسياق الكلام كذلك[12]، ومن حروف التعليل مثلا: كي، واللام، وإذن، ومن، والباء، والفاء. ومن الأسماء: أجل، جزاء، وعلة، وسبب، مقتضى ونحو ذلك. ومن الأفعال: عَلَّلْت بكذا، وَنَظَرْت كَذا بكذا[13].

وقد درج أغلب الأصوليين على ما أشار النحاة إليه فيما يتعلق بحرف الباء، وذكروا معانيها، والتي من ضمنها التعليل[14]، وقد فرق جماعة من الأصوليين بين باء السببية والتعليل، والفرق الذي ذكروه بينهما هو أن العلة موجبة لمعلولها، بخلاف السبب لمسببه، فهو كالأمارة[15].

وذهبت جماعة من الأصوليين أنه لا فرق بين باء السببية والتعليلية، وممن صرح به الإمام السبكي في “جمع الجوامع” حيث لم يذكر باء التعليل استغناء عنه بالسببيّة؛ لأن العلة والسبب واحد[16].

وقد قرر الإمام السبكي في موضع آخر إلى أن السياق الذي تأتي فيه الباء هو الذي يحكم على إفادته التعليل أو السببية، حيث قال:”وترد الباء للسببية، ومنه: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54]، ومثل به ابن مالك لباء التعليل، وجعل باء العلة غير باء السببية، وقدمنا الكلام عليه في مباحث العلل من أصول الديانات، ولا يخفى أنه إذا اختلفت محاملها حملت عند القرينة على ما دلت القرينة، فإن لم تدل على شيء فليس إلا الإلصاق”[17].

أما فيما يتعلق بدلالة الباء على التعليل، وهل هذه الدلالة صريحة أو غير صريحة، فقد ذكرها الإمام الآمدي ضمن الصريح في التعليل، ومثل لها بقوله تعالى:{ َجزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17][18]، وهو يقصد باللفظ الصريح في دلالته على العلة الذي لا يحتاج فيه إلى نظر واستدلال، بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة له.

 لكن هناك من اعترض على ذلك، وذهب إلى أن الباء في الآية للمقابلة، وليست للتعليل، كقولهم: هذا بذلك؛ لأن المعطي هو من قد يعطي مجانا، وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب[19].

وخالف في ذلك الإمام الرازي حيث ذهب إلى أن الباء لا تكون صريحة في العلية، ومثل لها بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، ثم بيّن أن أصل الباء للإلصاق، وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك، فحسن استعمال الباء فيه مجازا[20].

وذهب الإمام الزركشي إلى أنها من الظاهر[21]، ومثل لها بقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، وصار على ذلك الإمام الشوكاني، وأظهر أنها لا تكون قاطعة في العلية[22]، وتبعهم على ذلك الإمام الإسنوي حيث اعتبر الباء من الظاهر[23]، وهناك من  الأصوليين من ذهب إلى  أن الباء لا تفيد التعليل مطلقا، لا نصا، ولا ظاهرا[24].

وصار على ذلك الإمام الشوكاني، وأظهر أنها لا تكون قاطعة في العلية[25]. وتبعهم على ذلك الإمام الإسنوي حيث اعتبر الباء من الظاهر، حيث قال:” كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أي: بسبب الرحمة لنت لهم، قال في المحصول: وأصلها الإلصاق، ولكن العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل فيها معنى الإلصاق، فحسن استعمالها فيه مجازا، وهذا الكلام صريح في أنها لا تحمل عند الإطلاق على التعليل وحينئذ لا تكون ظاهرة فيه وهذا هو الصواب”[26].

وذهب بعض الأصوليين أن الباء لا تفيد التعليل مطلقا، لا نصا، ولا ظاهرا[27].

ومن النكت التي ذكرت في الفرق بين الباء واللام في العلية، وأن الأولى دون الثانية، وهو ما قرره الإمام الأصفهاني، وذلك راجع في نظره إلى أن محامل اللام أقل من محامل الباء، واللام وإن جاءت للاختصاص، فالتعليل لا يخلو عن الاختصاص، فكانت دلالة اللام أخص بالعلة[28].

وفي نهاية هذا البحث توصلت إلى جملة من النتائج، ولخصتها في النقاط الآتية:

أن للتعليل أهمية بالغة في التشريع الإسلامي؛ إذ به نعرف وندرك معاني الشرع ومقاصده العظيمة، ولا يتأتى ذلك إلا بفهم طرقه ومسالكه، ومن هذه المسالك والطرق ألفاظ التعليل التي من بينها حرف الباء الذي اختلف فيه النحاة والأصوليين.

اختلاف علماء النحو على غرار الأصوليين في الفرق بين معنى السببية والتعليلية عند مناقشتهم لمعنى التعليل في حرف الباء، على قولين: الأول: أنه لا فرق بين باء التعليل وباء السببية. والثاني: التفريق بينهما، فهما معنيان مختلفان. والذي يبدو أن المحدد والضابط في التفريق بين المعنيين هو سياق الكلام كما أكد ذلك الإمام السبكي.

للأصوليين مصطلحات خاصة بهم فيما يتعلق بقوة التعليل من ضعفه، فمعنى أن هذا اللفظ صريح في معنى التعليل يعني أنه قوي ومؤثر، أما غير الصريح أو الضمني فإنه أقل قوة في التعليل، وقد أثر هذا الأمر في معنى التعليل في الباء عند الأصوليين حيث اختلفوا فيها هل هي صريحة أم غير صريحة في التعليل على أقوال ذكرت أثناء هذا البحث.


المصادر والمراجع :

[1]- تعليل الأحكام، محمد مصطفى شلبي، مطبعة الأزهر، 1947م، ص14.

[2]-انظر:المرجع السابق، ص22-24، أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر، وهبة الزحيلي، ط: 1، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص1007.

[3] -انظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، تحقيق: مازن المبارك-محمد علي حمد الله، دار الفكر – دمشق، ط: 6، 1985، ص149، الجنى الداني في حروف المعاني، أبو محمد عبد الله المرادي، تحقيق:  فخر الدين قباوة -الأستاذ محمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط: 1، 1413هـ/ 1992م، ص36.

[4]-انظر الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي، ص39.

[5]-حروف التعليل عند التحويين والمفسرين، عماد علوان حسين، مجلة الأستاذ-كلية التربية-ابن رشد، كلية العلوم الإسلامية، ع:159، عام 2011م، ص3، وينظر: حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك، أبو العرفان الصبان، دار الكتب العلمية بيروت-لبنان، ط: 1، 1417 هـ/1997م، ج2، ص329.

[6]- حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك، أبو العرفان الصبان، مرجع سابق، ج2، ص329.

[7]- شرح التسهيل، محمد محب الدين الحلبي، تحقيق: علي محمد فاخر وآخرون، دار السلام، القاهرة، مصر، ط: 1، 1428 هـ، ج3، ص149.

[8] -انظر: التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، أبو حيان الأندلسي، تحقيق:حسن هنداوي، دار القلم – دمشق/دار كنوز إشبيليا، ط: 1، ج11، ص193.

[9]-شرح تسهيل الفوائد، ج3، ص150، وانظر: الجنى الداني في حروف المعاني،المرادي، مرجع سابق، ص39.

[10]- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، نور الدين الأُشْمُوني، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، ط:1، 1419هـ/ 1998م، ج2، ص89.

[11]-شرح تسهيل الفوائد، ج3، ص150.

[12]- البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، دار الكتبي، ط: 1، 1414هـ/ 1994م، ج7، ص237-238.

[13]- المرجع السابق، ج7، ص237-238. انظر التقرير والتحبير، ابن أمير حاج، دار الكتب العلمية، ط: 2، 1403هـ/ 1983م، ج2، ص62.

[14] – شرح الكوكب المنير، ابن النجار، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط: 2،  1418هـ/ 1997 مـ، ، ج4، ص 124.

[15]- المرجع السابق، ج1، ص268.

[16]- تشنيف المسامع بجمع الجوامع ، الزركشي، تحقيق: سيد عبد العزيز، عبد الله ربيع، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث، ط: 1، 1418 هـ/ 1998 م، ج1، ص508.

[17]- الأشباه والنظائر، تاج الدين السبكي، دار الكتب العلمية، ط: 1،  1411هـ/ 1991م، ج2، ص215.

[18]- الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان، ج3، ص252.

[19] -انظر: البحر المحيط، الزركشي، ج7، ص245.

[20] – المحصول، فخر الدين الرازي، دراسة وتحقيق:طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط:3، 1418 هـ/ 1997 م، ج5، ص141.

[21] -البحر المحيط، الزركشي، ج7، ص245.

[22] -إرشاد الفحول، الشوكاني، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دمشق – كفر بطنا، دار الكتاب العربي، ط: 1، 1419هـ/ 1999م، ج2، ص120-118.

[23]- انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط: 1، 1420هـ/1999م، ج 3، ص 55 وما بعدها.

[24]-أصول الفقه، محمد أبو النور زهير، المكتبة الأزهرية للتراث، ج4، ص56.

[25] – إرشاد الفحول، ج2،  ص120-118.

[26] – نهاية السول شرح منهاج الوصول، الإسنوي، ص321.

[27] -أصول الفقه، لأبي النور زهير، ج4، ص 56.

[28]- البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، ج7، ص246.