أوصت دراسة نشرت مطلع عام 2022 بعنوان “العلاقة بين الاضطرابات العقلية والتفاؤل”[i] بتضمين التفاؤل ضمن الجهود المبذولة لحماية الصحة العقلية، وأوضحت أن التفاؤل يقلل من الآثار السلبية لأحداث الحياة وتقلباتها.
والحقيقة أن التفاؤل من أقوى مضادات الاكتئاب والتوتر والقلق واليأس والقنوط، فهو مانع قوي للانتحار، ومن يتمسك بالتفاؤل فهو يمسك بالحياة، ولعل هذا ما جعل إحدى المهام الكبرى للأنبياء -عليهم السلام- هي التبشير، وغرس الأمل والتفاؤل، قال تعالى في وصفهم: “رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ”[ii]، وقال تعالى في وصف النبي محمد-ﷺ- ” وَمَآ أَرسَلنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا[iii]، فالأنبياء يصنعون الأمل للضعفاء والمظلومين، ويبشرونهم بالخلاص والعدل.
والتفاؤل نابع من أعماق الإنسان، ومن ثم فهو ذو بُعد معرفي مرتبط بطريقة التفكير التي تدرك المشهد بصورة إجمالية، فتتوقع الخير والتيسير والانفراج، حتى في ساعة العسرة والضيق، ولا تقف أمام اللحظة القاسية، كأنها لحظة أبدية لن تزول، ولعل هذا ما أشار إليه القرآن في تعبير بليغ “أليس الصبح بقريب[iv] فتباشير الصبح لا تأتي إلا بعد شدة العتمة في الليل، ويبقى أن”المتفائل هو من لا يعذب نفسه، أما المتشائم فهو من يعذب نفسه باستمرار”[v] وكما يقول الشيخ “جودت سعيد” : “الكون مبني على التفاؤل”.
التفاؤل إكسير الحياة
في كتابه “النور في القلب” The Light in the Heart يؤكد “روي تي بينيت” Roy T. Bennett أن “أكبر جدار يجب أن تتسلقه هو الجدار الذي تبنيه في عقلك”، وفي تجربة في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي قام بها البروفيسور “كيرت ريختر” Curt Richter خاصة بالوقت الذي تقضيه الفئران على قيد الحياة في بركة من المياه قبل أن تستسلم للموت، فوجد أن الفئران البرية تستسلم للغرق بعد (15) دقيقية، لكن “رختر” أعاد التجربة بشكل مختلف، فوضع الفئران في الماء، وقبل أن تستسلم للغرق، أخذها الباحثون وجففوها، ثم أعادوها للماء مرة أخرى، وكانت المفاجأة، إذ بقيت تلك الفئران على قيد الحياة تقاوم الموت ما بين 60:40 ساعة، وخلصت الدرسة أن الموت المفاجيء للفئران في البداية، كان ناتجا عن اليأس من النجاة، أما تمسكها الطويل بالحياة فهو نتيجة وجود أمل في الانقاذ، وهو ما جعلها تتصارع مع الغرق، فالأمل عامل قوي في المثابرة.
وأثبتت دراسات على مرضى السرطان في السويد، أن خطر وفاة المرضى بسبب النوبات القلبية والسكتة الدماغية، ارتفع فور تشخيص إصابتهم بالسرطان، وهو ما يؤكد أنه كلما غاب التفاؤل، وبدا المستقبل أكثر قتامة، زاد خطر الموت القلبي، وأظهرت دراسات أخرى، أن الأشخاص المتفائلين هم أكثر تمتعا بالصحة البدنية من المتشائمين، وأن التفاؤل يقلل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 50٪، وأن التفاؤل يُحسن جهاز المناعة، ويُقاوم الأمراض المزمنة، ويساعد على الوقاية من التأثيرات الصحية السلبية في التعامل مع الأخبار المؤسفة، وخلصت دراسة أجريت على أكثر من (150) ألف شخص، في (142) دولة، أن التفاؤل لا يجعلك تشعر بصحة جيدة، ولكنه يجعل-أيضا- صحتك أفضل، فالمتفائلون أكثر صحة وعافية، كما أكدت دراسة في كلية الطب في جامعة “هارفارد” أن التفاؤل يُحسن صحة القلب، وقالت:” الأشخاص الذين يميلون إلى النظر إلى الجانب المشرق يعانون من مشاكل قلبية أقل، ولديهم أيضًا قراءات أفضل للكوليسترول” وفي دراسة أجريت على ألف رجل وامرأة، أشارت أن الأشخاص الأكثر تفاؤلا كانت لديهم مستويات أقل في الدهون الثلاثية، لذا فالتفاؤل مُقاوم للشيخوخة، والمتفائلون يأخذون أياما أقل في مرضهم، وهو ما أثبتته دراسة في جامعة “بيتسبرغ” الأمريكية على مائة ألف شخص، على مدار ثماني سنوات، خلصت أن المتفائلين أقل عرضة للوفاة مقارنة بالمتشائمين.
ولوحظ أن الانحرفات وإدمان المخدرات والكحول ترجع بعض أسبابها إلى التشاؤم، وهو ما أكدته دراسة أجرتها جامعة كونكورديا الكندية Concordia University أن المتفائلين أقل عرضة للانحراف، فهناك علاقة بين التفاؤل وهرمون التوتر “الكورتيزول”، وأثبتت أن المتفائلين ينتجون كميات أقل من “الكورتيزول” أثناء الأزمات والأوقات العصيبة.
التفاؤل والصحة النفسية
التفاؤل ضروري للصحة النفسية، ويلعب دورا وقائيا في التعامل مع تقلبات الدهور وصروفه، وذو ارتباط إيجابي بالرضا عن الحياة واحترام الذات، فالمتفائل أكثر سعادة، ورضا عن نفسه وعن الحياة، في كتابه “لماذا لا تصاب الحُمُر الوحشية بالقرحة” Why Zebras Don’t Get Ulcers يؤكد البرفيسور “روبرت إم سابولسكي” Robert M. Sapolsky أستاذ علم الأعصاب الأمريكي أن “الضغط الذي ينتجه دماغنا ينعكس سلبًا على أجسامنا، فيزيد من مستويات الكورتيزول في الجسم، ويجعل نظام القلب والأوعية الدموية يعمل بشكل سيئ، ويفسد إنتاج الأنسولين” وهذه الحالة هي نتاج لتفكير الإنسان فيما لا يستطيع إصلاحه أو تغييره، وهي حالة تصيبه بالاجهاد النفسي والعقلي والبدني، وذلك لأن جسد الإنسان متأثر بواقعه، ويُنتج استجابات تبعا لهذا الواقع وتقلباته، فالأمراض المرتبطة بالإجهاد، هي استجابات مفرطة للتوتر، في حين أن المفترسات في عالم الحيوان لا تُخضع أجسادها للاجهاد إلا لدقائق قليلة، تنتهي مع تمكنها من فريستها، أو حتى حال فشلها، حيث تعود لحالتها الطبيعية، وتُخفض توترها، يقول “سابولسكي”: “بالنسبة للغالبية العظمى من الوحوش على هذا الكوكب، فإن التوتر يتعلق بأزمة قصيرة المدى، وبعد ذلك إما أن تنتهي أو ينتهي، أما نحن فعندما نجلس ونقلق بشأن الأشياء المجهدة، فإننا نشغل نفس الاستجابات الفسيولوجية، غير أنها قد تكون كارثة، عند استفزازها بشكل مزمن” .
يتفق” سابولسكي” مع البرفيسور الشهير ” آرون بيك” Aaron Beck في أن الاكتئاب في الأساس اضطراب في الفكر، وليس في العاطفة، حيث يميل المصابون إلى رؤية العالم بطريقة مشوهة وسلبية، فالمتفائلون والمتشائمون يتعاملون بشكل مختلف مع الشدائد، ومن ثم تتغير استجابتهم واستراتيجيتهم؛ فأغلب المتشائمين لا يرون في المستقبل أملا أو إشراقا، وهو ما ينعكس في استجابتهم السلوكية والجسدية، التي تميل إلى الاحباط واليأس والانسحاب، أما المتفائلون، فهم يرون في كل أزمة إمكانية لفرص جديدة.
وقد تناول “بيك” الأفكار السلبية التلقائية، مؤكدا أن هناك أنواعا من التفكير هي التي تُحدث الأزمات النفسية والعاطفية، وأن مواجهتها تكون من خلال العلاج المعرفي والسلوكي، أي تغيير الأفكار والذهنية، حيث أثبتت التجارب نجاح هذا النهج في مواجهة الكثير من الاضطرابات النفسية، واضطربات النوم والوسواس القهري واضطربات ما بعد الصدمات، وهو ما أكده عالم النفس “مارتن سيليجمان ” Martin Seligman عند حديثه عن “التفاؤل المكتسب” learned optimism، فجزء كبير من التفاؤل ما هو إلا عملية مكتسبة، أي أن الشخص والمجتمع لهما دور في إكساب التفاؤل أو التشاؤم، وهذا يذكرنا بما قاله العبقري “أينشتاين: “أُفضل أن أكون متفائلًا وأحمق، على أن أكون متشائمًا وصحيحًا”، أو مقولة الصحفي توماس فريدمان:” المتشائمون عادة ما يكونون على حق، والمتفائلون مخطئون عادة، ولكن كل التغييرات العظيمة تم إنجازها من قبل المتفائلين.”
وكما يقول الشاعر”إيلياء أبو ماضي” في قصيدته “أيها الشاكي” :
أيّهذا الشّاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إنّ شرّ الجناة في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود، وتعمى أن ترى فوقها النّدى إكليلا
[i] رابط الدراسة https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC8869756
[ii] سورة النساء: الآية: 165
[iii] سورة الفرقان: الآية: 56
[iv] سورة هود: الآية: 81
[v] مقولة للأديب الروسي “سولجينتسين”