تمر مراحل إصدار الحكم الشرعي، أو صناعة الفتوى بعدة مراحل للوصول إلى الحكم الشرعي، هذه المراحل هي : التصور، والتكييف، والحكم، والتدليل.
و تُعد كل حلقة من هذه الحلقات من الأهمية والضرورة بمكان، وإذا حدث خلل في إحداها، تتابع الخلل في بقية الحلقات، حتى يخرج المنتج النهائي مشوها معيبا.
وأريد هنا أن أتحدث عن الخطوة الثانية ( التكييف) باعتباره ضمانة من العبث بصناعة الفتوى، أو إصدار الحكم الشرعي.
التكييف الفقهي والتشخيص الطبي
التكييف في الحقل الفقهي بشكل مباشر = التشخيص في الحقل الطبي، فإذا كان الطبيب لا يمكنه أن يصف الدواء إلا بعد أن يقوم بالتشخيص، فكذلك الفقيه، لا يمكنه أن يصف الشيء المسئول عنه بحل أو حرمة إلا بعد أن يقوم بالتكييف!
إن التشخيص في المجال الطبي، هو الضمانة، التي تقي المريض من عبث الطبيب أو مجازفته بصحة المريض، كما أنها الضمانة التي تحدد مدى مسئولية الطبيب عن نتائج العلاج.
فمثلا، إذا اشتكى المريض طبيبه، وادعى أنه أعطاه دواء غير مناسب لحالته المرضية، فإن أول سؤال ستوجهه لجنة التحقيق للطبيب : على أي أساس أعطيته هذا الدواء؟ فهذا سوال عن طبيعة التشخيص، وهنا يمكن للطبيب أن يبرئ ساحته إذا قال : تشخيص الحالة عندي كذا، فهنا تتمكن اللجنة من معرفة ما إذا كان الطبيب كان محقا أم مفرطا. ولولا مبدأ التشخيص لقال الطبيب : أعطيته الدواء لأنه مناسب له.! هكذا دون ذكر سبب أو منطق لاختياره هذا الدواء بعينه.
التكييف في الحقل الفقهي يقوم بهذه الضمانة، فإذا أفتى مثلا أحدهم بأن فوائد البنوك حلال، سألناه : ما تكييفك لعملية الإيداع في البنوك؟ ومن ثَمَّ ما تكييفك للفوائد؟
فإذا قال : تكييفي للفوائد أنها قرض، أمكن رد فتواه بأن كل قرض اشترط فيه نفع للمقرض فهو ربا بإجماع العلماء، والفوائد نفع للمقرض، فهي ربا.
وفي ظل سقوط مبدأ التكييف، كان يمكنه أن يقول : هو حلال؛ لأنني أراه حلالا!
لذلك يلجأ أصحاب الفكر التسويغي للفوائد إلى تكييفات أخرى غير القرض!
الهروب من عملية التكييف
في الآونة الأخيرة، ظهرت حيلة جديدة للتهرب من التكييف بإلغاء هذه الخطوة من صناعة الفتوى، ومن مراحل الوصول إلى الحكم الشرعي!
ففي مثال الفوائد البنكية، وجدنا من يذهب إلى جوازها، مستندا إلى أنها عقد جديد، لا يتحتم تسميته ولا وصفه ولا تكييفه!
وهكذا يتصور أنه من خلال هذه الحيلة يصل إلى بغيته، وربما لا يكون صاحب هذا القول مدخول النية، إلا أنه بطرحه مرحلة التكييف سوف يفسح الطريق لنفسه أن يصف المسألة بما يشاء.
وتمشيًا مع هذا المسلك الذي قفز على مرحلة التكييف، بوصف ( الإيداع في البنوك) أنه عقد جديد، سوف نقول له : نحن لا نجبرك على أن تكيِّف ( الإيداع في البنوك) بأحد التكييفات القديمة المسماة في الحقل الفقهي، ولكننا سنسألك : هذا العقد الجديد : عقد معاوضة؟ أم تبرع؟ أم مشاركة؟
وهذه محاصرة منا لإعادته لمرحلة التكييف، فإذا اختار أنه عقد معاوضة، فلا بد أن يخضع ( الإيداع في البنوك)لضوابط وشروط عقد المعاوضة، وإذا اختار أنه تبرع، فلا بد أن يخضع لضوابط وشروط عقود التبرعات، وإذا اختار أنه مشاركة، فلا بد أن يخضع لضوابط وشروط عقود الشركات، والتي ستنتهي جميعها بالتأكيد إلى تخطئة القول بجواز فوائد البنوك، وليس الغرض هنا مناقشة فوائد البنوك، ولكن المقصود بيان أهمية وضرورة التكييف في ضبط مرحلة الفتوى.
والكلام نفسه ينطبق على كافة العقود المالية المستحدثة، كالتأمين، وعقود الاختيارات، وعقود المستقبليات، وغير ذلك.
البغي والحرابة
ومن الأمثلة التي يتم فيها القفز على التكييف إلى الوصول مباشرة للحكم الشرعي أو الفتوى، الخلط بين الجرائم السياسية والجنائية، فمعروف أن الخروج على الحاكم الشرعي يُصنف على أنه ( البغي) وفيه نزل قوله تعالى : ” {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، أما الخروج على المجتمع بقصد السرقة ، أو تهديد أمنه، فإنه يصنف على أنه ( الحرابة) وفيه نزل قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] فنرى أن بعض المتصدرين للفتوى يُعامل الجريمتين معاملة واحدة، فيسوق آية الحرابة في الخروج على الحاكم، وللوصول إلى ذلك يقفز إلى الحكم مباشرة دون تكييف فقهي، فيقول : هؤلاء مفسدون في الأرض؛ لأنه لو صوّر الواقع وكيّفه لن يمكنه إلا أن يصفه بالبغي، وإلا ظهر خطؤه البين، أو تدليسه الواضح!َ