ليس هناك من يجادل في كون التوحيد المفهوم الرئيس في الإسلام، وأنه يقع موقع القلب من المفاهيم الإسلامية الأخرى، وعبر تاريخهم لم ينقطع المسلمون عن العناية بمقاربته وتبيينه باعتباره جوهر العقيدة وقوامها، وقد اتخذت عنايتهم به في الآونة الأخيرة منحى مغايرا إذ بينما انطلق الأولون في دراستهم من الأرضية العقدية فإن بعض الدارسين المعاصرين كالدكتور اسماعيل راجي الفاروقي قاربوا المفهوم من الأرضية الحضارية، وبينوا كيف أسهم في صنع الحضارة الإسلامية ومنحها صفاتها التي ميزتها عن غيرها من الحضارات.

حمل عمل الفاروقي الموسوعي حول الحضارة الإسلامية عنوان (The Cultural Atlas of Islam)، وقد نقل بعد وفاته إلى اللغة العربية تحت عنوان (أطلس الحضارة الإسلامية)، ويسترعي الانتباه أنه رغم محورية مفهوم الحضارة في مثل هذا العمل إلا أنه أتى متداخلا مع مفهوم التوحيد، المفهوم المركزي في منظومة الفاروقي المعرفية، وهو يرد كافة المفاهيم الإسلامية إليه حتى لتبدو وكأنها تجليا وانعكاسا له.

التوحيد وعلاقته بالحضارة

ينظر الفاروقي إلى مفهوم الحضارة بوصفه أحد المفاهيم التي تولدت عن مفهوم التوحيد، فالحضارة حسب تعريفه هي”العلاقة بين جوهر الإسلام وبين الظواهر التي رسخت وجوده في التاريخ” ونتاج تلك العلاقة المنتج الحضاري الإسلامي، والتوحيد هو جوهر الإسلام مثلما هو جوهر الحضارة، إلا أنه رغم هذه العلاقة لا يمكن لإنسان أن يساوي بين التوحيد كمطلق غيبي وبين المنتج الحضاري التاريخي الموسوم بالنسبية والقصور.

والتوحيد بالنسبة للفاروقي ليس مجرد مفهوم ديني بل هو مفهوم معرفي كذلك وله خواص تفسيرية عالية؛ فبمقدوره أن يفسر العالم ويجيب على الأسئلة الوجودية التي تواجه الإنسان، ومفهوم بمثل هذا الشمول والتركيب لابد وأن يكون قابلا للوصف والتحليل، وبحسب الفاروقي فهو يشتمل على خمس مبادئ كانت لها تأثيراتها الحضارية، وهذه المبادئ هي:

الثنائية:وهذا المبدأ يشير إلى التمايز التام بين عالمي الخالق والمخلوق وهذا التمايز يجعل من المستحيل أن يتحد الواحد بالآخر، أو يحل الخالق في المخلوق أو يتسامى المخلوق ليصبح خالقا.

الإدراكية:ويعني هذا المبدأ أن العلاقة بين الخالق والمخلوق تؤسس على العقل الذي هو قوة فطرية أودعها الخالق في المخلوق كي يدرك ارادته، والإدراك يتحقق عن طريقين هما: تدبر الوحي، وملاحظة الطبيعة واكتشاف قوانينها التي أودعها الله.

الغائية: خلق الله تعالى الكون لغاية محددة ولم يخلقه عبثا أو مصادفة، فهو منتظم ومنضبط بإرادة الله التي تتجسد في القوانين الطبيعية وفي السنن الكونية التي ينبغي على الإنسان استنباطها والعمل بها.

القدرة الإنسانية: إذا كان الكون خُلق لغاية محددة فإن تحقيق تلك الغاية يغدو أمرا ممكنا بيد الإنسان الذي يستطيع تحقيقها في نفسه وفي مجتمعه، كما يستطيع تحقيقها في الطبيعة التي هيأها الله سبحانه وتعالى لتلقي فعل الإنسان بفعل مبدأ التسخير.

المسئولية والحساب:بالنظر إلى تمتع الإنسان بالقدرة على تغيير نفسه ومجتمعه فإنه لابد أن يكون محاسبا عن أفعاله وتصرفاته، والحساب بهذا المعنى يعد شرطا للأخلاقية التي ينبغي أن تصبغ أفعال الإنسان.

على ضوء تلك المبادئ يستنتج الفاروقي أن علاقة التوحيد بالفعل الحضاري تشتمل على جانبين: الأول أثر المبادئ التوحيدية في تحفيز الفعل الحضاري، والثاني الخصائص البنيوية التي طبع بها التوحيد الحضارة الإسلامية فتمايزت عن غيرها من الحضارات.

أثر التوحيد في حفز الفعل الحضاري

هذه المبادئ كان لها أثرها في تحفيز الإنسان المسلم على الفعل الحضاري، فالقول بأن الله هو الخالق يترتب عليه نفي الصدفة والعبثية عن العالم، ويعني أيضا نفي الخرافة التي يصفها الفاروقي بأنها عدوة العلم والمانعة من التحضر وإزالتها شرط لابد منه لتطور العلم ونشوء الحضارة.

والتوحيد أيضا دعوة لاحترام العقل بل وتقديسه إذ هو الأداة الوحيدة التي يدرك بواستطها المخلوق الخالق، ونصوص الوحي تدعو المسلم إلى إعمال العقل في نفسه وفي محيطه الاجتماعي- أي هي لتأسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية- مثلما تدعوه للنظر في الظواهر الكونية واستنباط قوانينها أي أن يمضي قدما باتجاه تطوير العلوم الطبيعية كما يستنتج الفاروقي.

والتوحيد يعني أن الإنسان لم يخلق عبثا وإنما خلق لعمارة الأرض التي جعلها الخالق سبحانه وتعالى مستجيبة له بموجب مبدأ التسخير، والإنسان بهذا المعنى مخلوق يمتلك مقدرة لا محدودة على البناء، والعمل على إطلاق هذه المقدرة الإنسانية شرط أساسي لتشييد الحضارة. ويذهب الفاروقي إلى أن التوحيد وحده هو الذي استطاع أن يطور حضارة تقف موقفا متوازنا من الإنسان ففي حين أن الحضارة الإغريقية قد طورت اتجاها إنسانيا قويا وصل إلى حد تأليه الإنسان فإن الحضارة المسيحية قد وقفت على النقيض منها فهبطت بمرتبة الإنسان عبر “الخطيئة الأصلية” حتى اعتبرته مخلوقا هابطا. أما الحضارة الإسلامية فهي وحدها التي احترمت إنسانية الإنسان دون تأليه أو تحقير.

وأخيرا يشير التوحيد إلى أن الإنسان سوف يحاسب على أعماله وأن عليه وهو يعمر الأرض أن يفعل ذلك في إطار من الضوابط الأخلاقية التي تكفل عدم نهب الطبيعة وحرمان الكائنات الأخرى من حقوقها المشروعة فيها، فهي “الضمانة الأكيدة لإنتاج حضارة متوازنة قادرة على إصلاح ذاتها” حسبما يستنتج الفاروقي.

خصائص الحضارة الإسلامية

صبغ التوحيد الحضارة الإسلامية بعدد من الخصائص التي أكسبتها شكلها وميزتها عن غيرها من الحضارات، وهذه الخصائص هي:

الوحدة

تعد الوحدة أحد السمات المميزة للحضارة الإسلامية إذ لا يمكن أن توجد حضارة من دون وحدة مثلما يذهب الفاروقي، وتعني الوحدة عملية انصهار العناصر المختلفة التي تتألف منها الحضارة وذلك بفعل وجود مبدأ يوحد هذه المبادئ، وهذا المبدأ هو التوحيد الذي استطاع أن يقوم بعملية هضم واستيعاب وتمثل لعدد ضخم من العناصر بعضها أصيل وبعضها وافد، بحيث استطاع أن يجمع هذه العناصر في نسق منتظم.

وبحسب الفاروقي ليس هناك حضارة استطاعت الاحتفاظ بنقائها الداخلي فجميع الحضارات تقتبس من غيرها، وهذا ليس يشين أي حضارة ولكن ما يشينها أن تكون قد جمعت عناصر أجنبية وحسب، أو أن تكون فعلت ذلك بشكل متنافر من دون إعادة تشكيل واستيعاب وتمثل، وعملية الاقتباس ليست مطلقة بل يقيدها مدى اتساق العناصر المقتبسة مع مبدأ التوحيد “فما يتفق مع هذا المبدأ يتم قبوله وتمثله، وما لا يتفق يتم رفضه وإدانته”.

العقلانية

وهي إحدى الخصائص المميزة للحضارة الإسلامية، والقول بها لا يعني بأي حال أن العقل مقدم على الوحي، بل يعني أن العقل يمكنه أن يقود مفسري الوحي إلى تفسيرات جديدة مدعومة بالعقل، ووفقا للفاروقي فإن العقلانية الإسلامية تستند إلى قوانين تحمي المسلم من الانغلاق، وتتيح له الانفتاح الأفكار الجديدة التي تنتجها الحضارات الأخرى وقبولها في حال ثبوت صحتها.

التسامح

وهو مبدأ رئيس للحضارة الإسلامية ويعني أن على المسلم أن يقف موقفا متسامحا على عدة مستويات، مستوى قبول الأفكار المخالفة التي لا تصطدم بالأصول الإسلامية، ومستوى تقبل الاختلاف الديني استنادا إلى أن وراء تنوع الأديان يوجد الدين الحنيف دين الله الذي وجد قبل أن يتفرق الناس على العقائد والأديان، ومستوى تقبل أرباب الديانات، حيث يحيل التسامح المواجهة والإدانات المتبادلة بين أهل الأديان إلى دراسة علمية تتناول نشوء الأديان بغرض الكشف عن جوهر الوحدة بينها.

وبالجملة، استطاع الفاروقي عبر مقاربته لمفهوم التوحيد مستخدما الأدوات المعرفية التي تتيحها العلوم الاجتماعية إحداث نقلة نوعية في النظر الإسلامي إلى مفهوم التوحيد، لقد برهن أنه وإن كان مفهوما نظريا مجردا إلا أن له تجليات واقعية بعيدة الأثر في الحضارة الإسلامية.