جاءت الشريعة الإسلامية لجلب المصالح ودرء المفاسد وتحقيق مصالح العباد في الدارين، وسنَّت أحكاماً ونظماً لتحصيل ذلك، منهـا: «التـداوي عند وقوع الأمراض، والتوقي من كل مؤذٍ آدمياً كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشُه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح… وكون هذا مأذوناً فيه معلوم من الدين ضرورة»[1].
وتقتضي المناسبة بيان ما يُتَّبع اليوم من وسائل نافعة للـوقاية من الوباء ومنع انتشاره، ومـن ذلك (الحجر الصحي) الذي اتبعته مجموعة من دول العالم لاتقاء وباء (كورونا كوفيد-19).
والمقصود بالحجر الصحي: عزل فرد أو جماعة من المصابين بمرض عن غيرهم اتقاء انتقال الداء.
والـمَحجر الصحي: هو المكان الذي يعزل فيه المصابون بالداء.
والحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه (كالذي لا يحسن التصرف) وقد يكون لمصلحة غيره (كالحجر على المريض الذي سيعدي غيره)، وقد ثبت بالتجربة أن حصر المرض في مكان محدود يتحقق معه حصر الوباء ومنع انتشاره.
ومما يؤسس به في الشرع للحجر الصحي: النهي عن الخروج من الأرض الموبوءة، ومَنْعُ الدخول إليها وقايةً، وهو إجراء له شواهده وأدلته في شريعة الإسلام، ومما يعتمد في ذلك من عموم الأدلة، قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] ، ووردت نصوص نبوية صريحة في الحجر الصحي، منها قول النبي ﷺ : «فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»[2]، وقوله ﷺ : «إذا سمعتم به [الطاعون] بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه»[3]. وهذا يعتبر تأسيساً صريحاً لمشروعية الحجر الصحي وأصله.
ومما تميز به تناوُل الشريعة الإسلامية للحجر الصحي الشمولية واعتبار العقيدة منطلقاً للامتثال في السلوك، وهو أسلوب يرتكز على ترسيخ الإيمان والاقتناع لتيسير الامتثال؛ إذ روعي في ذلك قناعة الفرد (المحجور عليه) وروعيت مصلحة الجماعة، قال رسول الله ﷺ : «لا يوردن ممرَض على مُصِحٍّ»[4]؛ وذلك حتى لا يكون وروده سبباً في انتشار المرض وإصابة قوم آخرين.
ووجهت الشريعة المريض إلى جملة من اليقينيات العقدية بكون ما أصـابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبيان ما سيناله من الثواب والأجر إن أصابه هلاك؛ إذ مُنِح ثواباً عظيماً يضاهي ثواب الشهادة؛ إذا صبر واحتسب ومكث في بلده؛ فالوباء قد يكون رحمة وقد يكون عـذاباً؛ فكونه رحمة فيما يترتب عليه من الثـواب وما ينـال به من الأجـر، وقد ثبت عن النبي ﷺ : «أنه [الطاعون] كان عـذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد»[5]، وفي صحيح مسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم»[6]؛ وإنما يكون شهادة لمن صبر واحتسب. وبوضع هذا الثواب والأجر تكون الشريعة قد راعت مصلحة الفرد والجماعة معاً في آن؛ بإثابة الصـابر ووقاية الجماعة.
ولما كانت النفوس البشرية بطبعها ميالة إلى النجاة بنفسها دون التفكير فيما قد تصيب به الآخـرين من عدوى؛ غلَّظ الشرع عقوبة من يفر من بلاد الوباء لكيلا ينقل إلى غيره؛ إذ اعتُبِر من يفر من تلك البلاد كالفارِّ من الزحف.
ونحن نشاهد اليوم ما تجده الدول من مشكلات في فرض الحجْر الصحي، وعدم امتثال لقرارات المكث في المحجر الصحي؛ إذ قرأنا عن حالات فرار من المحجر في بعض البلدان، وإذا كان في نفوس الناس عقيدة وإيمان بأهمية الأخذ بالأسباب فإنهم سيستجيبون طواعية دون إكراه، وينعمون في عزلتهم بعافيتهم الإيمانية وسكينة قلوبهم وطمأنينتها بالذكر والاستغفار والتقرب إلى الله.
وعلى هذا كان العمل في زمن النبي ﷺ ؛ فقد روي «أن فروة بن مسيك قال: قلت: يا رسول الله! أرض عندنا، يقال لها: أرض أبين، هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبئة (أو قال: وباؤها شديد)، فقال النبي ﷺ : دعها عنك، فإن من القرف: التلف»[7]؛ فالنبي ﷺ منعه من دخولها، لأن في الاقتراب من الوباء مـا يؤدي إلى العـدوى بذلك المـرض الخبيث الذي ربما كان سبباً في التلف والموت. وقد ضرب النبي ﷺ المثل الأعلى في الوقاية من البلاء بالتوجيه العملي إلى الوقاية؛ فعن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي ﷺ «إنَّا قد بايعناك فارجع»[8].
وأمره النبي ﷺ بذلك احتياطاً وحذراً وحفظاً للأنفس من العدوى، وقد كانت الوقاية سبيلاً مشروعاً ومتبعاً للوقاية من الأمراض لدى الصحابة رضوان الله عليهم؛ فعن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: «أقبلت إلى الزبير يوماً وأنا غلام وعنده رجل أبرص فأردت أن أمس الأبرص فأشار إليَّ الزبير فأمرني أن أنصرف كراهية أن أمسه»[9].
واستمر على هذا عمل الصحابة رضوان الله عليهم في الوقاية وتوجيه المصاب بالمعدي من الأمراض إلى اعتزال الناس؛ فقد روى الإمام مالك بسنده أن عمر بن الخطاب مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت، فقال لها: «يا أمة الله! لا تؤذِ الناس! لو جلست في بيتك!». فجلست. فمر بها رجل بعد ذلك. فقال لها: إن الذي كان قد نهاك قد مات، فاخرجي. فقالت: «ما كنت لأطيعه حيّاً وأعصيه ميتاً»[10]، قال الحافظ ابن عبد البر: «وفي هذا الحديث من الفقه الحكم بأن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الأذى لهـم؛ وأذى المؤمن والجار لا يحل، وإذا كان آكل الثوم يؤمر باجتناب المسجد وكان في عهد رسول الله ﷺ ربما أخرج إلى البقيع فما ظنك بالجذام!»[11].
وعُنِي علماء الحـديث بأمر الوباء فخصصـوا له أبواباً في مصنفاتهم؛ إذ أفرد علمـاء الحـديث أبواباً للحديث عن الطاعون؛ فالإمام البخاري في صحيحه تحدث عن الطاعون في (كتاب الطب)، والإمام مسلم في صحيحه تحدث عنه في (كتاب السلام)، والإمام مالك في مـوطئه وضع عنواناً سماه (باب ما جاء في وباء المدينة)، وغير ذلك كثير في كتب السنة.
وتم العمل بالحجر الصحي في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي؛ فقد أقام الوليـد بن عبد الملك الملاجئ في أنحاء دولته وجمع إليها المجذومين وأجرى عليهم الأرزاق وقيل: هو أول من أقام الملاجـئ، وذكر الإمام ابن كثير أنه «أعطى المجذومين، وقال لهم: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مُقعَد خادماً، وكل ضرير قائداً»[12]. وقبله ما فعله عمر، رضي الله عنه، لما جمع المهاجرين والأنصار فاستشارهم في أمر الطاعون؛ فاختلفوا عليه، حتى قدم عبد الرحمن بن عوف وأخبره أنه سمع من النبي ﷺ حديثاً في ذلك وهو قوله ﷺ : «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه»[13]، فكان ذلك الحديث موافقـاً لما رآه عمر رضي الله عنه فانصرف الناس بالناس إلى المدينة.
وقد أكد العلماء ما يفيد الحجر الصحي؛ فهذا حافظ المغرب ابن عبد البر قال: «لا يحل لأحد أن يفر من أرض نزل فيها إذا كان من ساكنيها ولا أن يقدم عليه إذا كان خارجاً عن الأرض التي نزل بها»[14]. وفرَّقوا بين من يخرج لضرورة وغير ضرورة؛ إذ اتفقوا على أنه يجوز كمن يخرج لعلاج الناس ومساعدتهم، ويمنع مَنْ هو مصدر أذى للناس من مشاركة الناس في عباداتهم، وقد ذكر العلماء أن «المجذوم يمنع من المساجد ومن الاختلاط بالناس، وهل يثبت لزوجته خيار فسخ النكاح؟ فيه خلاف، وقد أثبت مالك والشافعي الخيار بخلاف الحنفية والتفصيل في كتب الفقه»[15].
وإضافة لما سلف في تأكيد مشروعية الحجر الصحي، ووجوب الامتثال له، ينبغي أن يُتفطَّن لما حث عليه الشرع من وسائل الوقاية الأخرى من الأوبئة؛ كالطهارة والنظافة، والحرص على إسباغ الوضوء، وطهارة البدن والمكان، وهي أمور واجبة على المسلم كل يوم، تابعة لِـمَا يؤديه من فرائض وواجبات، وتكرار ذلك له دلالته الإيمانية والصحية.
ولعل المناسبة تقتضي التذكير بأن الأحاديث الواردة في نفي العـدوى؛ كحـديث: «لا عدوى ولا طِيَـرَة، ولا هامة ولا صَفَرَ، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد»[16]، ذكر العلماء طرق الجمع بينها وبين ما يثبت العدوى بما لا مزيد عنه، ونورد ما حققه الإمام ابن الصلاح رحمه الله في ذلك؛ إذ ذكر بعد إيراده ما ينفي العدوى وما يثبت وجه الجمع بينهما؛ فقال: «هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سبباً لإعدائه مرضه. ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب؛ فأحاديث النفي محمولة على ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن ذلك يعـدي بطبعه، ولهذا ورد: «فمن أعدى الأول؟»، وفي الأحاديث المثبتة بيان أن الله سبحانه جعل ذلك سبباً لذلك، وحذَّر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده، بفعل الله سبحانه وتعالى»[17].
وهناك حِكَم أخرى في الحجر الصحي نص عليها أبو حامد الغزالي؛ حيث قال: «لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين ولم يبقَ في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم؛ فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً، وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر؛ فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضاً والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر أعضائه… نعم، لو لم يبق بالبلد إلا مطعـونون وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا؛ لأجل الإعانة ولا ينهى عن الدخول؛ لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف»[18]. وليت المسلمين اليوم يفقهون شريعة ربهم وحقيقة ما جاء به دينهم؛ فعبادة الله تعالى واتباع شريعته تكون بالعلم، وعلى العلماء واجب البيان والنصح للأمة؛ لكيلا يتصدر الرويبضة؛ فيهلك بجهله العباد والبلاد، وللأمة عِبَر واعتبار فيما كان في التاريخ من سنن الله التي لا تحابي أحداً: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].
د. عبد الكريم القلالي 5>
[1] الموافقات، الشاطبي: 2/ 261.
[2] صحيح البخاري، حديث رقم: 5707.
[3] صحيح البخاري، حديث: 3473.
[4] صحيح البخاري، حديث: 5770.
[5] صحيح البخاري، حديث: 5734.
[6] صحيح مسلم، حديث: 1916.
[7] سنن أبي داود، حديث: 3923، بعض العلماء ضعَّف الحديث، وأوردته للاستئناس.
[8] صحيح مسلم، حديث: 2231.
[9] شعب الإيمان، البيهقي، حديث: 1296.
[10] (الموطأ، حديث: 250)
[11] (الاستذكار، ابن عبدالبر، ج: 4، ص: 407)
[12] (البداية والنهاية، ابن كثير، 9/186)
[13] صحيح البخاري: 7/130.
[14] التمهيد، لابن عبد البر: 6/111.
[15] الكوكب الوهاج: 22/338.
[16] صحيح البخاري: 7/126.
[17] مقدمة ابن الصلاح، ص: 285 (بتصرف).
[18] إحياء علوم الدين: 4/291.