يحتل موضوع “الحداثة” موقعا فكريا بارزا في عالمنا المعاصر، إنه المصطلح الأكثر شيوعا الذي يطلق على مسيرة المجتمعات الأوروبية منذ عصر النهضة إلى اليوم، التي صارت محل مراجعة من الفكر الغربي نفسه الذي بدأ يبشر بدخول العالم مرحلة ما بعد الحداثة، وفي السطور التالية أسعى إلى التعريف بـ مفهوم الحداثة، وشبكة علاقاته المفاهيمية، والإشكالات المصاحبه له.

نحو تعريف الحداثة

جاء ظهور الحداثة في أعقاب ثلاث حوادث غربية كبرى، وهي: حركة الاكتشافات الجغرافية التي أدت إلى وصول الغربيين للطريق المؤدي الأمريكتين وغيرها من المناطق، وحركة الإصلاح الديني المسيحي التي قلصت النفوذ المادي للكنيسة من خلال مصادرة الممتلكات الكنسية، والثورة الصناعية وما صاحبها من ازدهار في العلوم الطبيعية والبيولوجية والرياضية، وتشكل هذه الحوادث الإطار التاريخي الذي تبلورت فيه الحداثة وتطورت من خلاله، ولكن ما هي الحداثة وما هي محدداتها ومبادئها.

يشير مصطلح الحداثة بصفة عامة إلى السعي الحثيث إلى خلق بنى وأنظمة فكرية ومجتمعية واقتصادية وسياسية جديدة والإطاحة بالبنى والأنظمة القديمة القائمة، كما يشير إلى انتشار منتجات النشاط العقلي العلمية، والتكنولوجية والإدارية -البيروقراطية، ويشير كذلك إلى الفصل الحاد بين قطاعات الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا الفصل ليس إجرائيا بمعنى إعادة دمجها مجددا ضمن رؤية كلية ثقافية أو مجتمعية، ويحمل هذا الفصل في طياته فكرة العلمنة وقوامها أن يقوم كل قطاع على تنظيم ذاته داخليا وفقا لآليات عمل العقل الأداتي وليس وفقا لأي غائية أخلاقية أو دينية تقع خارج هذا القطاع.

تحمل الحداثة تصورا كونيا يحل العلم فيه محل الله، ويتخذ مكانه في المجتمع (المجال العام) على حين يقتصر حضور التصورات والممارسات الدينية على الحياة الخاصة للفرد (المجال الخاص)، إذ من المستحيل تطور إطلاق لفظ “حديث” على مجتمع يسعى لأن ينتظم أموره وأفعاله وتصوراته وفقا لوحي إلهي، ويترتب على هذا الفصل بين الحياة العامة والحياة العامة الذي يعد سمة مميزة المجتمع الحديث، ومن جهة ثانية لا يكفي انتشار منتجات الحداثة التكنولوجية لكي يوصف المجتمع بأنه حديث، بل يشترط أن يحمي العقل ونشاطه من أي تأثير دعائي للفكر الديني أو الغيبي عن طريق القانون الذي تتضخم مهامه وتصبح أولوياته هي الحيلولة دون وجود محاولات للحد من العقل منه أو فرض أي نوع من القيود عليه.

وثمة ارتباط وثيق بين فكرتي العقلنة والحداثة، بل إن التخلي عن إحداهما يعني بالضرورة التخلي عن الأخرى، وبفعل هذا الربط تطور مفهوم العقلنة عبر السياق الحداثي فلم يعد طاقة تدفع الإنسان صوب اكتشاف آفاق مجهولة في الكون، وإنما صار طاقة سلبية عندما صار موجها نحو تدمير العقائد والانتماءات والثقافات التقليدية، ثم حدث التحول الأكبر مع تمديد المفهوم وتجاوزه إطار “الإنسان العقلاني” الذي يدير حياته وفقا للعقل إلى “المجتمع العقلاني” الذي بشر به فلاسفة التنوير الأوربيين، ودور العقل فيه غير قاصر على توجيه النشاط العلمي والتقني لكنه يوجه ويصوغ حكم البشر على الأشياء، مع الإقصاء الكلي للدين، فما يقبحه العقل يتم تجريمه وما يستحسنه يتم تعميمه.  

عملية إيجاد المجتمع العقلاني والتي تدعى “عملية التحديث” تتم من خلال عدة إجراءات من بينها: إلغاء كافة أشكال الحماية للتنظيمات الاجتماعية التقليدية كطوائف الحرف، وخلق طبقة من الرأسماليين الاقتصاديين أصحاب المشروعات وتوفير الأمان لهم، وخلق قاعدة بيروقراطية وإدارية تضطلع بإدارة النشاط الاقتصادي، وهذه الإجراءات تكفل الاطاحة بالمعتقدات التقليدية وكافة أشكال التنظيمات الاجتماعية التي لا تؤسس على أدلة علمية وعقلية.

خلفت عملية التحديث آثارا عميقة على المجتمعات الغربية، ففي المجال الفكري ألغيت فكرة الإله وأطيح معها بالغيب والماورائيات، وحل العلم -وخصوصا علم النفس– محل التزكية والتأمل في الذات، وذلك بفعل الفكرة التي روج لها فلاسفة الحداثة والقائلة أنه لا المجتمع ولا التاريخ ولا الأفراد يخضعون لإرادة كائن أسمى وإنما لقوانين الطبيعة، ومع إقصاء الإلهي والغيبي صار الإنسان مركزا للكون بحسبانه جزءا من الطبيعة. وفي المجال الاجتماعي أطيح بالأنظمة السياسية القديمة وحلت محلها أنظمة ثورية تبنت فكرة أن تكون الدولة حاملة لمثل كونية عليا (الحرية، الإخاء، المساواة)، وأن تتسم بالعقلانية التي تنتفض لحماية الأفراد من أي فكر غيبي، وتعد الجمهورية الفرنسية بعيد الثورة التمثيل الحي لهذه الأنظمة.

الطبيعة والأخلاق الجديدة

ومثلما اقترنت الحداثة بالعقلانية فإنها تقترن من جهة أخرى بمفهوم الطبيعة، والطبيعة في المنظور الحداثي لا تدل فقط على الوجود “الفيزيائي” ولا على الواقع المادي الذي ينبغي تمييزه عن الروحي، فهو لا يتعلق بوجود الأشياء داخل الطبيعة وإنما بمنشأها وأصلها، فالطبيعة هي أصل الأشياء ومنشأ الحقائق، فكل الحقائق لها وجود مادي موضوعي (محايث) ولا تقتضي أي وحي مفارق، كما أن لها وجود أخلاقي، وهكذا تغدو الطبيعة أو الكون يدور حول ذاته وله مركز داخلي ينجذب إليه وأخلاقيات خاصة به، لا يحتاج معها لأن يدور حول مركز آخر خارجي (الإله المفارق).

وعلى أرضية الطبيعة يتم إعادة تأسيس مفهوم الخير والشر بعيدا عن أي مؤثرات دينية، بالادعاء أن المجتمع وحده هو منبع القيم، وأن الخير ما يكون نافعا للمجتمع والشر ما يؤذي سلامته وفعاليته، وهذه الفكرة  جوهرية في تعريف الحداثة وبفضلها حل المجتمع محل الله كأساس للحكم الأخلاقي ومصدرا له، ولم يعد المجتمع كما كان في السابق موضوعا للحكم الأخلاقي، أما الإنسان فلم يعد مخلوقا لله ولكنه فاعل اجتماعي يتحدد بأدوار معينة ينبغي لها أن تسهم في الأداء الجيد للنظام الاجتماعي، ولأن الإنسان هو ما يفعله لا ينبغي له البحث عن مصدر ذاته خارج المجتمع أي لدى الله، وعليه أن يحدد معنى الخير والشر على أساس ما هو نافع أو ضار لبقائه وما يضمن أداءً أفضل للكيان الاجتماعي، وحول هذا المعنى يقول ديدرو ” الإنسان مستقيم وفاضل عندما يحجم أهواءه، دون أن يتأثر بأي حافز يرغبه في مكافأة دنيئة أو يخوفه من عقاب [الثواب والعقاب الأخروي].

خلاصة ما سبق، أن مفهوم الحداثة مفهوم شامل إنه “بناء صورة عقلانية للعالم الذي يدمج الإنسان بالطبيعة، الكون المتناهي في الصغر (الميكرو) في الكون المتناهي في الكبر (الماكرو) ويرفض كل أشكال الثنائية بين الجسد والروح، عالم الإنسان وعالم الغيب“.

 وقد يظن أن الحداثة أعلت من قيمة الإنسان وجعلت منه إلها مشرعا، لكن فلاسفة ما بعد الحداثة يؤكدون أنها معادية للأنسان لأنها تدرك أنها الذات الإنسانية مرتبطة بالروح التي تفرض فكرة الإله، ولأن استبعاد كل وحي وكل مبدأ أخلاقي يخلق فراغا يتم ملؤه بفكرة المجتمع أي النفعية الاجتماعية، فالإنسان ليس إلا مواطنا، والبر يصبح تضامنا مجتمعيا، والضمير احترام للقانون.

إشكاليات الحداثة

تعرضت الحداثة منذ منتصف القرن الماضي إلى النقد العنيف بقيادة نقاد الحداثة الغربيين بيتر برجر وآلان تورين وباومان وغيرهم وامتد النقد إلى العالم العربي حيث برز من نقاد الحداثة العرب من قدم نقدا بنيويا للحداثة ونذكر على الأخص طه عبد الرحمن الذي ركز على النقد الأخلاقي للحداثة، وعبد الوهاب المسيري الذي ذهب إلى أنها تكرس نظرة نحو الغرب تجعل منه مركز الكون والمهيمن عليه، مما دعم فكرة الإمبريالية الغربية، كما قضت على ثنائية الإنسان والطبيعة وجعلت منه محورا للكون.

وبقطع النظر عن هذه الإشكاليات النظرية إلا أنه يمكن التحدث عن إشكالات متعينة عانت منها المجتمعات التي تبنت الأيديولوجية الحداثية، وهي:

   التجريف أو التجريد: ويقصد به أن عملية التحديث تقتلع البنى والأنظمة الاجتماعية والثقافية والدينية وكل ما يمت للتاريخ والماضي بصلة، ولكنها لا تخلق بدورها بدائل تحل محلها وإنما فراغا كبيرا إلا من بعض المؤسسات الرأسمالية والتقنية والبيروقراطية ومجموعات اجتماعية لا يربطها رابط تعاني من الاغتراب عن محيطها.

وثمة أزمتان تمثلان معضلة التجريف هذه خير تمثيل، الأولى أزمة المدن الصناعية الحديثة التي تترك أثرها السلبي في نفوس قاطنيها، وفيها يذوب الفرد وتختفي الخصوصية الإنسانية ضمن الحشود الهائلة التي تقطن المدينة، وتفرض المدينة قيمها المادية المتوحشة على المقيمين بها الذين لا يشغلهم بمضي الوقت سوى هاجس العمل وإشباع الحاجيات المادية، والثانية أزمة التعددية أو بالأحرى التشظي السكاني التي هي وليدة الرأسمالية المتوحشة التي تدفع البشر نحو مغادرة قراهم ومدنهم للسكن في المدن الصناعية بحثا عن العمل، فيفقد المجتمع تجانسه الطبيعي ويفتقر إلى اللحمة الداخلية الناتجة عن تعدد الهويات والثقافات التي لا يربطها رابط.

   أولوية المستقبل: ولدت الحداثة تحولا ثوريا في مفهوم الزمن، ذلك أن التحديث في أحد تعريفاته هو “التحول من تركيز الانتباه نحو الماضي والحاضر إلى المستقبل”، وهذا التركيز على المستقبل يقتضي من الأفراد حسن إدارة الوقت،  وتقدير قيمته واحترام المواعيد، ويلاحظ في هذا الإطار أن الساعة غدت رمزا للحداثة في معظم البلدان فوضعت على الجدران والمباني العامة وفي الميادين، وصارت في كل يد، وهكذا غدت آلة الزمن ملتفة حول الجسم لضبط إيقاعاته وحركاته في إطار الزمن،  وهو ما يشكل ضغطا كبيرا على الإنسان الذي ينتمي لثقافة كلاسيكية لا تعطي الوقت أهمية كبرى، ويجد نفسه مطالبا بإعادة هيكلة سلوكياته وأفعاله وفق جداول زمنية محددة، ولا يقتصر الضغط على الأفراد وإنما يطال الحكومات والمؤسسات الكبرى التي تضطر لوضع مشاريعها وخططها ضمن أطر زمنية ممتدة لسنوات مقبلة.

   الحرية: وهي إحدى الشعارات البراقة للحداثة التي ادعت أن بمقدور الإنسان أن يتحرر من كل قيوده السابقة، وأن يصنع قدره الخاص بعيدا عن القدر الإلهي، ولكن الحرية في أحد معانيها ليست إلا مواجهة عدد نهائي من الخيارات التي يجب على الفرد الاختيار من بينها، وهذا يعني أن لديه القدرة على التمييز والمفاضلة بينها، وهذا ما دفع إريك فروم إلى استعمال عبارة (الهروب من الحرية) لوصف المعضلة التي يفرضها الحضور الكثيف للخيارات، وهو ما يولد قلقا غير محدود بالنسبة للإنسان، هذا القلق الذي كانت موازين الحياة التقليدية وقيمها قادرة على تخليص الإنسان منه، ومنحه شعورا بالاستقرار والراحة.

   العلمنة: وهي أهم الإشكاليات المصاحبة للحداثة حيث تطرح بوصفها البديل الحداثي للدين، ولوصف عملية الانتقال من المقدس إلى المادي، إذ أنها في أحد تعريفاتها الدقيقة “العملية التي يفقد فيها الوعي الديني والنشاطات الدينية مغزاها الاجتماعي” وهو ما يعني أنها تتعلق بعملية التراجع في النشاطات والمعتقدات وأنماط التفكير الديني وفي سطوة المؤسسات الدينية، والتي تترافق مع آليات التحديث الاجتماعي. ويدعي بعض الدارسين أن العلمنة لا تعادي الدين وإنما هي محايدة فهي لا تمنع من ممارسة أي شكل من أشكال التعبير الديني، لكن هذا تحديدا كان موضع انتقاد بيتر برجر الذي ذهب إلى أن العملنة تنطوي على تضارب فيما يتعلق بين الإيمان والإلحاد، حتى يمكن القول أنها تؤدي وظيفة توفيقية بين الاثنين انطلاقا من وقوعها بينهما في منتصف الطريق، ويضيف برجر انتقادا آخر ذاهبا إلى أن العلمنة معادية لبعد السمو في الحالة البشرية، وهذا البعد هو مكون ضروري من مكونات الحالة البشرية والإطاحة به يشوه الواقع ويجرد الإنسان من إنسانيته.