الحداثة والمجتمع الإسلامي : لقد أفرزت الحداثة ما يمكن أن نطلق عليها القراءات الحداثية للنص القرآني، وهى محاولات للنيل من قدسية وسمو النص القرآني من خلال تأويله وفق المناهج التي وضعت لفهم النصوص الأدبية بداية من الهرمنيوطيقا ومرورا بنظرية موت المؤلف ثم التاريخانية ثم البنيوية والتفكيكية وكل منها يحتاج الى دراسة مطولة [1]، الأمر الذى لا مناص معه من التعرض للحداثة باعتبارها البيئة التى أفرزت هذه القراءات التأويلية واصطبغت هذه القراءات بالصبغة الحداثية منهجا ومضمونا للوقوف على جدوى هذه الحداثة من عدمه بالنسبة لمجتمعنا الإسلامي، والرد على المبررات المزعومة لضرورتها لتطوير الفكر الاسلامي.

تعريف الحداثة

يمكن أن نبدأ بتعريف مصطلح الحداثة وفقًا للمفهوم العربي ولمعاجم اللغة العربية،  ففي لسان العرب: الحَدِيثُ: نقيضُ القديم، والحُدُوث: نقيضُ القُدْمةِ .حَدَثَ الشيءُ يَحْدُثُ حُدُوثًا وحَداثةً، وأَحْدَثه هو، فهو مُحْدَثٌ وحَديث، وكذلك اسْتَحدثه .وأَخذني من ذلك ما قَدُمَ وحَدُث؛ ولا يقال حَدُث، بالضم، إِلاَّ مع قَدُم، كأَنه إِتباع، ومثله كثير.

وقال الجوهري: لا يُضَمُّ حَدُثَ في شيء من الكلام إِلَّا في هذا الموضع، وذلك لمكان قَدُمَ على الازْدواج.

وفي حديث ابن مسعود: “أَنه سَلَّمَ عليه، وهو يصلي، فلم يَرُدَّ عليه السلامَ، قال: فأَخذني ما قَدُمَ وما حَدُث” (أخرجه البخاري ومسلم)؛ يعْني همومه وأَفكارَه القديمةَ والحديثةَ. يقال: حَدَثَ الشيءُ، فإِذا قُرِن بقَدُم ضُمَّ، للازْدواج .والحُدُوثُ: كونُ شيء لم يكن .وأَحْدَثَه اللهُ فَحَدَثَ. وحَدَثَ أَمرٌ أَي وَقَع.

ومُحْدَثاتُ الأُمور: ما ابتدَعه أَهلُ الأَهْواء من الأَشياء التي كان السَّلَفُ الصالحُ على غيرها .

وفي الحديث: “إِيَّاكم ومُحْدَثَاتِ الأُمور” (حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي) ، جمعُ مُحْدَثَةٍ بالفتح، وهي ما لم يكن مَعْرُوفًا في كتاب، ولا سُنَّة، ولا إِجماع .

وهكذا تحدد معنى الحداثة لغةً في قولهم: حدث الشيء يحدث حُدُوثًا وحداثةً، وأحدثه فهو محدث وحديث. وكذلك استحدثه.. فالحديث هو إيجاد شيء لم يكن وابتدعه. والحديث والحدوث نقيض القديم والقدْمة، وكون الشيء لم يكن. وما ابتدع، والمحدث هو الأمر المبتدع، واستحدثتُ خبرًا؛ أي: وجدت خبرًا جديدًا، والحديث الجديد من الأشياء. والحدث هو الشباب أو الأمر المنكر الذي ليس معتادًا ولا معروفًا،  ويقال العالم محدث؛ أي: له صانع، وليس بأزلي، فالحداثة هي الجدة، وأول الأمر وابتداؤه . [2]  

تعريف الحداثة في اللغات الأجنبية

وفي اللغات الأجنبية (الإنجليزية والفرنسية) نجد أنَّ كلمة حداثة لفظ أوربي المنشأ، ففي الإنجليزية لفظان: Modernism وmodernity، ومثلهما في الفرنسية، والترجمة العربية لهذين المصطلحين تختلف من حداثة إلى عصرية إلى معاصرة.

فالبعض [3] يفرق في الترجمة بينهما على النحو الآتي:

  1. (Modernity) تعني المعاصرة والعصرية؛ وتعني المعاصرة: “إحداث تغيير وتجديد في المفاهيم السائدة، والمتراكمة عبر الأجيال نتيجة تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن.
  2.  (Modernism) تعني الحداثة التي هي مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعو إلى التمرد على الواقع، والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته. وآخرون يجعلون كلمة (Modernism) لفظًا دالًا على حب الجديد، كما يدلُّ على العصرية، ثم تطور حتى غدا مصطلحًا له دلالة على مذهب الحداثة المعلوم في الأدب كما سيظهر.

أمَّا كلمة (Modernity ) فهي تصف الزمن الثاني لهذه الحِقبة كما تصف حداثة الأدب بكونه عصريًّا. فللمصطلح جذرٌ عربيٌّ له دلالة من حيث مشتقاته، فهو يعني: الجدة – الشباب – أول الأمر وبداءته – حدوث شيء لم يكن – الخبر إلى غير ذلك من المعاني، لكنه عند الترجمة من اللغة الأجنبية إنجليزية كانت أو فرنسية نجد اللبس والغموض والاضطراب والتفاوت واقعًا ظاهرًا، وهذا لا شك ينقل الاضطراب والتفاوت إلى المفهوم والتعريف الاصطلاحي.

الحداثة بين المفهوم العربي والغربي

وحاول بعض الباحثين [4] أن يقرب بين مفهوم الحداثة في اللغة العربية ومفهوم حداثة الاصطلاحي لدى الغرب، فيرى أنَّ جوهر الحداثة في اللغة العربية هو الشيء الذي ليس له قديم، ليس له ارتباط بجذور أو بموروث ، وهو ما انتهى إليه المعجم الفلسفي، الذي صدر عن مجمع اللغة العربية المصري، حيث يذكر معنى الحادث: أنَّه ما يكون مسبوقًا بالعدم، فهو كائن بعد أن لم يكن، إذًا نفس معنى القطيعة مع الماضي، وليست له جذور.

وقد عَبَّرَ عن هذا المفهوم للحداثة بعض الباحثين بقوله :إنَّ الحداثة ثمرة  التنوير الغربي، وهي في جوهرها  قطيعة مع الموروث المعرفي، ويضيف أنَّه لم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله، وأنَّه منذ الآن فصاعد راح الأمل في الله ينزاح؛ كي يخلي المكان؛  لتقدم عصر العقل وهيمنته، وهكذا ولى نظام النعمة الإلهية، وأخذ ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة. بالطبع يمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر، ولكنه لم يعد يوهم أحدًا، فنفس الكلمات ولم يعدلها نفس المعاني، لقد أصبح  الإنسان حده مقياسًا للإنسان. [5]

 أمَّا إذا نظرنا إلى آراء المفكرين فأدونيس على سبيل المثال أشار إليها في مؤلفه “الثابت والمتحول” بأنَّها:”الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام”، ثم يذكر في الكتاب نفسه أنَّه “لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي”.

ويرى الدكتور جابر عصفور أنَّ الحداثة: هى”البحث المستمر لمعرفة أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة، والسيطرة عليها، وتطوير المعرفة بها؛ ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض، أمَّا سياسيًّا واجتماعيًّا، فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أوالطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الديمقراطية”، تعني الحداثة “الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل”. [6]

والحداثة بحسب تعبير رولان بارت، طوفان معرفي، وزلزال حضاري عنيف، وانقلاب ثقافي شامل .. الحداثة – أيضًا – موقف عام وشامل ومعارض للثقافات التقليدية السائدة، الحداثة تدعو إلى إعادة النظر في كثير من الأشياء، والتحرر من كل القيود، الحداثة ثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع، الحداثة عملية تقدمية، حتى لو كان المخاض عسيرًا، فهي تنشد عصرًا جديدًا يقترن بالتطور والتقدم وتحرر الإنسان، الحداثة رؤية فلسفية وثقافية جديدة للعالم، الحداثة حالة وعي الواقع؛ وبالتالي نقده. [7]

 ويصف ماكس فيبر [8] الحداثة بفك السحر؛ إذ تلاها  تفكك التصورات الدينية  للعالم  تفككًا أوجد في أوروبا ثقافة لا دينية [9]، ويُسمِى هذا الأمر بالعقلانية.

والوصف الأخير يكشف عن وجه للحداثة نعده مقيتًا، فهي تعني التمرد على الدين، واعتبار أن الدين يناقض العقل، فهي ثورة على الدين لصالح العقل البشري ، فهي رفض للروح والغيب وانتصار للمادية بكل صورها.

 وفي هذا السياق فإنَّ البعض أبرز الحداثة من هذا المنظور، فألان تورين [10] يقول: إنَّه من المستحيل إطلاق كلمة حديث على مجتمع يسعي قبل كل شيء لأن ينتظم، ويعمل طبقًا لوحي إلهي أو جوهر قومي،  كما يقول: ” تحل فكرة الحداثة محل فكرة الله في قلب المجتمع، وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة  بكل فرد من جهة، ومن جهة ثانية فإنَّه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات تكنولوجية للعلم؛ كي نتكلم عن مجتمع حديث، ينبغي أيضًا حماية النشاط العقلي من الدعايات السياسية أومن الاعتقادات الدينية”. [11]

 ونحن لا نريد أن نطيل في تعريف لغوي أو اصطلاحي، فالواقع أنَّ الحداثة ومناهجها التي ولدتها لقراءة النصوص تكشف بوضوح أنَّها تهدم الصلة بين الحاضر والماضي، وتتصور أن قطع هذه الجذور هو السبيل الأمثل للتحرر الفكري أو التحرر من سلطة النص والانطلاق في ظلال العقل، ولما كان العقل من وجهة نظرهم قد تقيد بقيد المورث الديني، فلا بأس من التحرر من هذا المورث بحجة إطلاق الحرية للعقل دون أي نوع من القيود السابقة، باعتبار أنَّ الدين يضع حدودًا للعقل، لا يجوز له أن يتجاوزها.

 وإذا كان هذا المفهوم للحداثة، وأنَّها نشأت لمناهضة سيطرة رجال الدين والفكر التقليدي في أوروبا لتحل الطبيعة محل الله، ويحل العقل كلية محل النص، فلاشك أنَّ الحداثة بمفهومها الغربي ولدت نتيجة للحادث في أوروبا خلال القرون الوسطى، والثورة الصناعية، وحركات الإصلاح الديني.

وإذا كان الفرقاء مجمعين على نشأة الحداثة في الغرب، فإنَّهم مختلفون على التأريخ لها، فغالبية الباحثين يرون أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب وفي حقول الأدب بعد أن قوضت الرومانسية أركان الكلاسيكية، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا شارل بودلير، ورامبو، ولامارليه؛ أي: مع نهاية الرومانسية وبداية الرمزية، ثم ظهرت مذاهب أدبية أخرى كما هو معروف. دعا الحداثيون إلى التحرر من الكثير من القيود، والثورة على التقليد والمحاكاة، ورأى بعضهم أنَّ الحداثة جاءت نتيجة تراكمات وإرهاصات للمذاهب والتيارات الأدبية والفكرية السابقة للحداثة.

صورة مقال الحداثة والمجتمع الإسلامي
كتاب (القراءات الحداثية للنص القرآني) تأليف د. محمد عبدالفتاح عمار

ولكن هناك من يعود بمصطلح الحداثة إلى القرن الخامس عشر؛ أي: ربما إلى حركة مارتن لوثر الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة والتمرد على سلطتها الروحية، دون أن نغفل دور التقنية التي سهلت ومهدت لهذا التمرد، لاسيما اختراع الطباعة التي قال فيها مارتن نفسه إنها من أسمى فضائل الرب على عباده .. ومنهم من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر؛ أي: إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا.

وأخيرًا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين؛ أي: بالإمبريالية على خلفية احتلالاتها الاستعمارية؛ أي: في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة، كل هذا الاختلاف في تاريخ هذا المصطلح ناجم عن الاختلاف في تحديد مفهوم الحداثة وغرضها، واختلاف الرؤية إليه.

أسباب نشأة القراءات الحداثية

أمَّا في العالم العربي فيمكن إرجاع الحداثة وخاصة القراءات الحداثية ونشأتها إلى جملة أسباب:

  •  السبب الأول الصدمة الحداثية التي أصيب بها بعض الحداثيين، وانبهار المثقفين العرب والمسلمين بالثقافة الغربية.
  • السبب الثاني الاستشراق والدراسات الاستشراقية التي أسهمت في ظهور هذا الاتجاه التأويلي خاصة أن بعض الدراسات كان الهدف منها رفع المصدر الإلهي عن القرآن الكريم.
  • السبب الثالث حركة الابتعاث إلى الخارج في عهد محمد علي في مصر وحتى يومنا هذا.
  • السبب الرابع هو التحرر من المناهج التقليدية لفهم القرآن، وذلك بزعم أن تلك المناهج التقليدية لم تعد صالحة لفهم القرآن في هذا الزمان.
  • السبب الخامس هو التوجه الأيديولوجي لبعض المنتمين لهذا التيار ومعادة الثقافة الإسلامية . [12]

دوافع القرءات الحداثية

والواقع أنَّه لايمكن إنكار قوة دافعين أساسين للأخذ بها :

الدافع الأول: حيث استخدمت كرد فعل لحالة الجمود الفكري والعقلي التي سادت العالم العربي حتى أوائل القرن التاسع عشر، والاستبداد السياسي، واستغلال الدين لترسيخ الاستغلال السياسي والسلطوي للحكام.

والدافع الآخر هو الانبهار بالغرب وثقافته وهو مازال معيارًا فاعلًا لدى الكثير حتى وقتنا الراهن حيث يرون في الغرب بثقافته، ومنها: الحداثة، النموج المعياري والأمثل الذي يجب الاحتذاء به، والسير على نهجه دون إمكانية خلق مشروع مستقل وذاتي نابع من تراثنا المعرفي والديني الزاخر.

وهو بالطبع مردودٌ عليه بأنَّه إذا كانت الحداثة بالمفهوم الغربي تتمركز وتتمحور حول العقل، فإنَّ العقل أيضًا هو محور أساسي في الثقافة الإسلامية، ولم ينكر أحد دعوة الإسلام إلى العقل وإعمال الفكر في أمور الدنيا، كما أنَّ للعقل في أمور الدين باعًا طويلًا، وتراثًا ضخمًا يتمثل في الاجتهاد والاستنباط والقياس وعلم أصول الفقه، وهو علم منهجي يقوم أساسًا على استخدام العقل لقراءة النصوص واستخلاص الأحكام الشرعية منها.

الحقيقة أنَّ بعض رواد التنوير نقلوا إلينا الحداثة كبضاعة معلبة ومضادة ضد فيرس الاستبداد السياسي في محاولة لتحرير الشعوب من الظلام الذي فرض عليهم بقوة النص أو بقوة الدين ـ كما تصوروا-،  فكانت الحداثة مجالًا خصبًا للنيل من كثير من جوانب العقيدة الدينية حتى وصل الأمر إلى اتباع المناهج الأدبية لقراءة النص القرآني.

 نحن لا ننكر أنَّ العالم العربي والإسلامي كان في حاجة في لحظات تاريخية بل حتى الآن إلى ثورة فكرية وحضارية، لكن السؤال هل من الضروري أن ترتكز هذه الثورة على المنهج الحداثي بمفهومه الغربي؟ وهل لابُدَّ أن نتخذ الحداثة سبيلًا حتى نرقى وتتطور المجتمعات العربية إلى الأحسن؟ وكأن الحداثة والحضارة الغربية التي قامت عليها هي السبيل الأوحد لذلك.

الحقيقة التي يجب أن نؤكد عليها من مفهومنا أننا في غنى عن الحداثة المادية التي تحل الطبيعة محل الخالق، وتنكر الغيب على حساب المادة، أما العقل فله مكانته، ولم يحدث أن دعى الدين الإسلامي إلى محاربته، بل على العكس احترمته العقيدة الإسلامية، ودعى القرآن في أكثر من موضع إلى استخدامه، وذلك في الإيمان ابتداءً، وفي النظر إلى قدرة الخالق والتدبر في أحكام الدين وقواعده.

 ومن وجهة نظرنا المحضة فإنَّ المبررات التي قامت عليها الحداثة في الغرب غير موجودة أصلًا في المجتمعات الإسلامية وإن تشابهت الأحداث من حيث تحكم السلطة والاستبداد السياسي باسم الدين هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن لدينا من حضارتنا ما يكفي لخلق حداثتنا بمفهومها الروحي والعقلي المتكامل، و الخطأ الذي وقع فيه رواد التنوير هو تصوروهم وحتى هذه اللحظة أنَّ المشروع الغربي بثقافته هو الأمثل بل الأوحد، ولا سبيل سواه للتقدم ورقي الإنسان.

إنَّ الحداثة التي هدمت الكهنوت الديني، وقامت على أنقاض الدين في الغرب لا يمكن أن يكون لها بهذا المفهوم دور حقيقي في نهضة الأمة الإسلامية، فلا الظروف هي الظروف ولا الدوافع هي الدوافع، نعم نحن في حاجة إلى ثورة العقل، ثورة المعرفة، لكننا لا يوجد لدينا كهنوت كالكهنوت الغربي، ولايمكن فصل الدين الإسلامي عن الدولة، ولاعن الحياة العامة، فالدين المعاملة، والرسول كان قرآنًا يمشي على الأرض.

فالإسلام مشروعٌ متكاملٌ للفرد والدولة، ونظامٌ متكاملٌ للمجتمع والمؤسسات، مشروع يحتاج إلى التطبيق الذي لم يرَ النور تقريبًا إلا في عصر الرسالة، وفي عهد الراشدين، وفي قليل من اللحظات التاريخية المضيئة في تاريخ العالم العربي الإسلامي.

أما استبداد الحكام باسم الدين، او انحراف بعض رجال الدين في أي عصر من العصور، أيًا كانت طبيعة هذا الانحراف سواء انحراف لتأييد السلطة الحاكمة في استبدادها، أو انحراف عن الأفكار السليمة والقويمة ونشر التخلف والشعوذة أو حتى الإرهاب باسم الدين- فإنَّ ذلك لا يعيب الدين في أصله، ولا يمسُّ من جوهره وقيمته وذاتيته، وإنَّما يعيب الأشخاص في أخلاقهم وضمائرهم، والقول بغير ذلك يعني الخلط بين ماهو شخصي وموضوعي، وهو خطأ جسيم لا يقل عن الاستبداد باسم الدين؛ لأنَّه سيتحول إلى استبداد ضد الدين باسم العقل.

ولو أخذنا بهذا المعيار الذي ينادي به الحداثيون فإننا فضلًا عن أننا سنفتقد الموضوعية، فإنَّه أسوة بتحميل الإسلام أخطاء المستبدين ورجال الدين والمتطرفين، يتعين علينا أن نرفض الحضارة التي صنعت القنبلة الذرية التي قتلت الملايين، رغم أنَّ الحضارة والذرة نفسها بريئة من هذا القتل الذي تقع مسئوليته على مَنْ استخدموا العلم للهلاك والإهلاك بدلًا من البناء والتنمية.

الخلاصة أنَّ الحداثة بمفهوما الغربي لا يمكن لها أن تستقيم أبدًا مع منابع المعرفة الإسلامية، وتصطدم بقوة مع مفهوم الدين لدى المسلمين، ثم الأهم من ذلك أنَّ المسلمين يمكن لهم خلق نوع من الحداثة تنهض بهم دون أن تنفصم مع عرى التراث، ولا تنقطع روابطهم بدينهم ولا تراثهم المعرفي والثقافي، ونشير إلى ماقاله أحد رواد النهضة في العالم العربي والإسلامي الإمام محمد عبده عند تفسيره لقوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (الفاتحة : 6)، فذكر مانسميه بالهدايات الأربع، وهي تمثل سبل المعرفة:

  1. العقل
  2. النقل
  3. التجربة
  4. الوجدان

 وعلى ذلك تتوازن في مشروعنا الحضاري النهضوي مصادر المعرفة عالم الغيب وعالم الشهادة، وتتوازن سبل المعرفة أيضًا، وهي: العقل، والنقل،والتجربة، والوجدان، لننجو من المأزق الذي وقعت فيه كل من الوضعية والمادية [13] .

إن الدوافع مختلفةٌ والبيئة الاجتماعية والمعرفية والدينية بيننا وبين الغرب مختلفٌة؛ لذا فإنَّ استعارة أفكار الغرب ومحاولة تعريبها أو أسلمتها هي في الغالب تفضي إلى فراغ وعدم، ولا تحقق أي نتائج، بل أحيانًا قد تمسُّ ثوابت العقيدة، وتزعزع الثقة في الدين، وتقضي على الهوية، والأفضل والأجدر لعلمائنا وفلاسفتنا ومفكرينا البحث والتنقيب في كتابنا المقدس، وأحاديث الرسول ، وفي تراثنا الفقهي والفكري والثقافي بكل جوانبه عن مناهج وأفكار تصلح لمجتمعاتنا، وترسخ لقيمنا، وتحافظ على هويتنا دون شعور بالنقص والتقزم أمام أفكار الغرب، والتصور أنَّ تلك الأفكار المستوردة هي الأمثل، وأنَّها المعيار والنموذج الذي لا انفكاك عنه، ولاسبيل للأخذ بغيره.

إنَّ علينا أن نرهق أنفسنا في مراجعة تراثنا النقلي منه والعقلي، وسنجد ما فيه الكفاية لتحقيق مأربنا في الحفاظ على ديننا ودنيانا، وتحقيق ذاتيتنا.

 كما أنَّه لا يتصور بأي حال من الأحوال أن تكون هناك نهضة إسلامية عربية دون الربط مع الماضي بقيمه وعلومه وفكره، ولا يتصور أيضًا إهمال النص، والتضحية بالتراث؛ لخلق حداثة إسلامية عربية.

  يمكن أن يحدث ذلك في الغرب، لكنه لا يتصور مطلقًا بالنسبة للحضارة العربية والإسلامية التي لا ينفصل فيها النص الديني عن الفكر، ولا تنفصل فيها القيم عن الواقع، فالإسلام هو المنظم للحياة وللطبيعة وللزواج والتعايش والتعامل في الأسواق والبيع والشراء والحكم والإدارة، وكل ما يحكم الدنيا والدين وجد إما صريحًا وملزمًا في نصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة والثابتة، وإما وجد في صورة مبادئ وقواعد عامة،  يمكن للعقل أن يجتهد ويعمل تحتها لخلق أحكام وتطبيقات تصلح لمسايرة واقع الحياة والمتغير من أحوال المسلمين، بل والمستجد؛ نتيجة لتطور الحياة بشتى مناحيها.

 النص الإسلامي لم يترك شيئًا إلا ووضع تفاصيله، فإن لم تكن هناك تفاصيل، فقد ترك للعقل مهمة استنباط التفاصيل من خلال الاجتهاد وإعمال الفكروالاستنباط من القواعد الكلية والمطلقة، إذًا فثقافتنا وحضارتنا كما يقولون هي حضارة النص وثقافته، ولا أرى عيبًا في ذلك من جهة، ومن جهة أخرى لا أرى أنَّ ذلك تقييدٌ للعقل، ولا حجر عليه؛ لأنَّ النص نفسه هو الدافع والحاض على إعمال العقل، وهو الذي يدفع إليه دفعًا، ويدعو لاحترامة وقدسيته، ويُعَدُّ من مقاصد الشريعة التي ينبغي الحفاظ عليها.

إنَّها ليست تقافة جمود، فالنص نفسه في كثير من مواضعه يرتبط الحكم الوارد فيه بعلته، والعلة إن تغيرت بتغير الزمان أو لم تعد موجودة، فلا حاجة لتطبيق الحكم، والعقل هنا يؤدي دورًا كبيرًا في تنزيل الحكم على الواقع، واستكشاف علة الحكم .

فقاعدة بناء الأحكام على العلل أو حتى بنائها على الحكمة أو المصلحة الشرعية من وجهة نظرنا فيما يتعلق بالمعاملات دون العقائد والأوامر الملزمة التي تخضع للعلة التي قدر الخالق كفايتها لإلزامية الحكم، قاعدة بناء الأحكام على العلة أو الحكمة تكفل للأحكام مرونة التطبيق وحيوية التجديد، وهناك مناطق شاسعة ومحطات كبيرة في العقيدة والفكر الإسلامي مجالها للعقل والفكر والإبداع والتطور الذي يلائم الواقع، وهذه بالتأكيد من خصائص العقيدة الإسلامية التي تنعكس على ثقافة المسلم ولولا ذلك ما كان هذا الدين هو الدين الصالح لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة.

الخاتمة

الحقيقة أنَّ الاستيعاب والقدرة على احتواء الظواهر والمعارف والعلوم هي التي كفلت للإسلام ديمومته، وهي أكبر دليل على أنَّه دين معجز، وأن محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء؛ لذا أبدع علماؤنا ومفكرونا في العصور الذهبية ووضعوا علومًا، وطوروا في علوم أخرى، بل وضعوا مناهح علمية لإعمال العقل ممثلة في قواعد القياس والاستنباط والاجتهاد الفقهي والمعرفي، أمَّا في مجال التفسير، فلاشك أنَّ هناك مناهج تتفق وطبيعة النص القرآني، وهي حاضرة بقوة ومنضبطة في عمل المفسرين، فلم يكن تفسيرهم خبط عشواء مطلقًا، وسنرى ذلك تفصيلًا.

فإذا كان من غير الممكن إنكار استفادة الغرب من أفكار مفكرينا وعلمائنا وفلاسفة العرب والمسلمين كابن رشد وغيرهم وترجمتهم لمؤلفات العصر الذهبي للثقافة الإسلامية، فنحن أولى من الغرب بعلمائنا ومفكرينا، وما علينا إلا فتح الخزائن؛  لنشفي منها أمراضنا، ونروي منها ظمئنا الذي طال كثيرًا وكثيرًا، وليس أدل على نقص هذه المناهج الحداثية الغربية من ظهور ما يعرف بما بعد الحداثة [14]،  كرد فعل على الأفكار التي قامت عليها الحداثة، فلم تسلم الحداثة من النقد، بل أن كل منهج جديد من المناهج الحداثية قائمٌ على هدم المنهج السابق عليه، والوقوف على أنقاضه معلنًا فشله في الوصول إلى مبتغى الحداثة التي يزعمون .