تطلع الغيورون على اللغة العربية في مصر منذ أكثر من قرن من الزمان إلى إنشاء مجمع للغة العربية، يضم الفحول من أهل اللغة والأدب؛ للنظر في لغتهم والمحافظة عليها، ووضع البدائل للألفاظ الأجنبية التي بدأت تشيع على الألسن؛ فاجتمع نفر منهم في بيت محمد توفيق البكري سنة (1310هـ=1892م) ضم: الإمام محمد عبده، وحفني ناصف، والشيخ محمود محمد الشنقيطي، وغيرهم من أهل اللغة، واتفقوا على إنشاء هيئة أو مجمع يقوم على حماية اللغة والمحافظة عليها، ووضعوا اللائحة التي تنظم شؤونه، وانتخبوا “البكري” رئيسًا لهذا المجمع، لكن هذا المجمع لم يُكتب له الاستمرار، فتوقف بعد أشهر قلائل.

ولم تخفت فكرة إنشاء المجمع، فظلت الدعوات تتصاعد بضرورة قيام هيئة علمية تنهض بشؤون اللغة العربية، فأسس الشيخ محمد عبده سنة (1318هـ=1900م) جمعية لإحياء العلوم العربية؛ لتكون نواة لمجمع جديد، ولم يُكتب لهذه الجمعية البقاء، فلحقت بمجمع “البكري”، وتوقفت عن العمل.

ثم حمل الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي الأديب الكبير “حفني ناصف”؛ فكوَّن في سنة (1325هـ=1907م) ناديًا لخريجي “دار العلوم” برئاسته، وعقد ندوة خاصة دامت نحو أسبوعين لمعالجة بعض قضايا اللغة، وألقيت في هذه الندوة بحوث للأساتذة: حفني ناصف، وحمزة فتح الله، ومحمد الخضري، وطنطاوي جوهري، وأحمد فتحي زغلول، ولم يكن حظ هذا المجمع بأفضل من سابقيه؛ فلم يستمر هو الآخر.

ولم يكد يمضي على هذه الندوة عشر سنوات حتى أخذ أحمد لطفي السيد في سنة (1335هـ=1916م) في إنشاء ما يُسمى بمجمع “دار الكتب”، واختير الإمام سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيسًا له، وقد استمر في عمله فترة قصيرة، فعقد 24 جلسة، ثم توقف عن العمل بعد اشتعال ثورة 1919م، وحاول لطفي السيد استعادة نشاطه في سنة (1344هـ=1925م) لكنه لم يفلح في ذلك.

ميلاد المجمع

ولما تولى “أحمد لطفي السيد” وزارة المعارف اشتد اهتمامه بمشروع إنشاء المجمع اللغوي، وجعله تحت إشراف وزارة المعارف، حتى لا يكون نصيبه بعد ذلك مثل نصيب سابقيه، وبعد مجهودات مضنية في إقناع الحكومة تحقق إنشاء المجمع، وصدر مرسوم ملكي في (14 من شعبان 1351هـ=13 من ديسمبر 1932م) بإنشاء مجمع اللغة العربية الملكي، وحدد المرسوم أغراضه بأن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون ومستحدثات الحضارة المعاصرة، ووضع معجم تاريخى للغة العربية، وتنظيم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة، وإصدار مجلة لنشر البحوث اللغوية.

مجمع عالمي

ونصّ المرسوم على أن يتألف المجمع من عشرين عضوًا يُختارون من غير تقيد بالجنسية من بين العلماء المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، وأن يكون تعيين هؤلاء الأعضاء في المرة الأولى بمرسوم بناء على عرض من وزير المعارف، ثم يوكل الأمر بعد ذلك للمجمع نفسه، فيختار من يرتضيه، بشرط أن يحرز أصوات أغلبية ثلثي الأعضاء.

ثم صدر مرسوم في (16 من جمادى الآخرة 1352هـ = 6 من أكتوبر 1933م) بتعيين أعضاء المجمع العاملين، وكانوا عشرين؛ نصفهم من مصر، وهم: محمد توفيق رفعت، وحاييم ناحوم، والشيخ حسين والي، والدكتور منصور فهمي، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ أحمد الإسكندري، وأحمد العوامري، وعلي الجارم. وخمسة من المستشرقين هم هاملتون جب من إنجلترا، وأوجست فيشر من ألمانيا، ولويس ماسينيون من فرنسا، وكارلو ألفونسو نيلنو من إيطاليا، وفنسنك من هولندا. وخمسة من علماء العرب النابهين هم: محمد كرد علي، وعبد القادر المغربي من سوريا، والأب أنستاس الكرملي من العراق، وعيسى إسكندر المعلوف من لبنان، وحسن عبد الوهاب من تونس.

واختير محمد توفيق رفعت رئيسًا للمجمع، والدكتور منصور فهمي أمينًا للسر.

وقد افتُتح المجلس رسميًا في صباح يوم الثلاثاء الموافق (14 من شوال 1352هـ = 30 من يناير 1934م) في حفل أقيم بدار المجمع لهذه المناسبة، وبدأ دور الانعقاد الأول للمجمع في اليوم نفسه، وانكبّ الأعضاء على وضع اللائحة الداخلية والأسس الإدارية والعلمية التي تقوم عليها أعمال المجمع في المستقبل، وقد استغرق وضع اللائحة خمسًا وثلاثين جلسة.

زيادة أعضاء المجمع

شوقي ضيف (في الوسط) يرأس اجتماعا للمجمع

وقد نما المجمع، وتطور تطورًا ملحوظًا، وعُدل تشريعه، وزيد عدد أعضائه أكثر من مرة، فصدر في سنة (1359هـ = 1940م) مرسوم بتعيين فوج ثانٍ من عشرة أعضاء مصريين، كان من بينهم أحمد لطفي السيد، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، ثم صدر مرسوم في سنة (1366هـ = 1946م) بزيادة عدد أعضاء المجمع العاملين؛ بحيث لا يقل عددهم عن ثلاثين عضوًا، ولا يزيد عن أربعين، وعُيِّن فوج ثالث من عشرة أعضاء مصريين، كان من بينهم: إبراهيم بيومي مدكور، وعبد الرزاق السنهوري، والشيخ محمود شلتوت، وأحمد زكي.

ثم تتابع بعد ذلك فوز الأعضاء بالانضمام إلى مجمع الخالدين عن طريق الانتخاب، لكن تلك الطريقة لم تستمر طويلاً؛ ففي أيام الوحدة مع سوريا صدر قرار جمهوري سنة (1379هـ=1960م) بتوحيد مجمعيْ القاهرة ودمشق، واعتبارهما فرعين لمجمع واحد مقره بالقاهرة، ويتكون أعضاؤه من ثمانين عضوًا عاملاً؛ نصفهم من المصريين، وعشرون من السوريين، وعشرون من ممثلي البلاد العربية، واستلزم ذلك تعيين أعضاء جدد من مصر والعالم العربي، وظل العمل بذلك إلى انتقضت الوحدة مع سوريا سنة (1381هـ=1961م)، فعادت لمجمع اللغة العربية الاعتبارية المستقلة.

تنظيم المجمع على وضعه الحالي

وفي سنة (1403هـ=1982م) صدر قانون بإعادة تنظيم مجمع اللغة العربية، نص على أنه هيئة علمية مستقلة ذات شخصية اعتبارية لها استقلالها المالي والإداري، ونص على أن له مجلسًا ومؤتمرًا ومكتبًا، ويتألف المجلس من أربعين عضوًا على الأكثر من المصريين، على حين يتألف مؤتمره من أعضاء المجلس وعدد لا يتجاوز العشرين من غير المصريين.

واشترط هذا القانون في العضو أن يكون متعمقًا في اللغة العربية وآدابها، وله إنتاج معروف، أو أن يكون متخصصًا في أحد العلوم العصرية، متقنًا لغة أجنبية مع دراية وافية بالعربية، أو أن يكون ذا اهتمام بارز بالمخطوطات العربية والتراث القديم.

وللمجمع رئيس، ونائب رئيس، وأمين عام، يختارهم مجلس المجمع من بين المرشحين من أعضائه، وكان محمد توفيق رفعت أول رئيس للمجمع، ثم تلاه أحمد لطفي السيد من سنة (1365هـ=1945م) حتى وفاته سنة (1383هـ=1963م)، وخلفه الدكتور طه حسين حتى سنة (1393هـ=1973م)، ثم تلاه الدكتور إبراهيم مدكور، وبعد وفاته خلفه الدكتور شوقي ضيف، ولا يزال رئيسًا للمجمع حتى الآن.

ويتكون مكتب المجمع من رئيس المجمع، ونائبه والأمين العام وعدد من الأعضاء، ويختص بتصريف أعمال المجمع الإدارية والمالية وتنفيذ القرارات ومتابعتها.

ويُنتخب أعضاء المجلس العاملون بطريقة التصويت السري من بين المرشحين بتزكية اثنين من أعضاء المجلس، ولا تكون جلسة الانتخاب صحيحة إلا إذا حضرها الثلثان على الأقل من الأعضاء، ولا بد أن يحصل الفائز بالعضوية على الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس.

وللمجمع أعضاء مراسلون، وليس لهم عدد محدود، ولم يقصرهم على جنسية معينة، وجعلها مفتوحة لمن يراه أهلاً لعضويته، وهو يستعين بهم في تحقيق أغراضه، ولهم جميعًا الحق في الاشتراك في مؤتمر المجمع السنوي.

أعضاء المجمع

ويجمع أعضاء المجمع بين تخصصات مختلفة، ويربطهم جميعًا المعرفة الواسعة باللغة والتمكن من آدابها، والرغبة في خدمتها والعمل على نهضتها؛ فكان من بين أعضاء المجمع الأدباء الكبار من أمثال: العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم. وضم المجمع شعراء عظاما من أمثال: علي الجارم، وعزيز أباظة، ورضا الشبيب، ولغويين أفذاذًا من أمثال: أحمد الإسكندري، وعبد القادر المغربي، وعباس حسن، وإبراهيم مصطفى، وإبراهيم أنيس، وتمام حسان. وضم أيضًا مؤرخين ثقاة من أمثال: محمد شفيق غربال، ومحمد رفعت، ومحمد عبد الله عنان، وعبد الحميد العبادي، وحسين مؤنس. وقانونيين نابغين من أمثال: عبد الرزاق السنهوري، وعبد العزيز فهمي، وعبد الحميد بدوي. وصحفيين نابهين من أمثال: عبد القادر حمزة، وتوفيق دياب، وأحمد حافظ عوض. وكان من بين أعضاء المجمع بعض علماء الطبيعة والكيمياء والأحياء من أمثال: أحمد زكي، ومصطفى نظيف، ومحمد يوسف حسن، وعبد الحليم منتصر.

وشرف المجمع أن كان من أعضائه من تولى مشيخة الأزهر، وهم: محمد مصطفى المراغي، ومصطفى عبد الرازق، وإبراهيم حمروش، ومحمد الخضر حسين، وعبد الرحمن تاج، ومحمود شلتوت، ومحمد الفحام.

ونلفت النظر إلى ظاهرة لطيفة في أعضاء المجمع؛ فقد كان من بينهم من نال هو وابنه عضوية المجمع مثل الدكتور “علي إبراهيم الجراح” المعروف أول رئيس لجامعة القاهرة وابنه الطبيب الشاعر “حسن علي إبراهيم”، ومن نال العضوية هو وأخوه مثل الشيخين الجليلين “مصطفى عبد الرازق” و”علي عبد الرازق”، أو هو وابن أخته مثل “زكي المهندس” و”إبراهيم أنيس”، أو هو وابن خالته مثل العالمين الجليلين “عبد السلام هارون” و”محمود محمد شاكر”.

أنشطة المجمع

يقوم المجمع بنشاط كبير في خدمة اللغة العربية، وتيسير التعامل بها، والارتقاء بها، ويدور نشاط المجمع حول محاور متعددة شملت وضع المعاجم، ووضع المصطلحات العلمية، وتشجيع الإنتاج الأدبي، وإحياء التراث العربي.

أما وضع المعاجم العربية، فكان أحد الأهداف الأساسية للمجمع منذ تأسيسه، وأمضى المجمع سنوات طويلة في وضع منهجه المعجمي، وأثمر هذا الجهد ظهور “المعجم الوسيط” الذي يُعد أفضل المعاجم العربية التي ظهرت في القرن العشرين وأحسنها ترتيبًا وتنسيقًا، وقد اشتمل على ثلاثين ألف كلمة، وقد لقي هذا المعجم قبولا حسنًا، وذاع بين الناس، كما أخرج مجمع اللغة المعجم “الوجيز” لطلبة المدارس، واعتمد في مادته اللغوية والحضارية على “المعجم الوسيط” مع مراعاة اليسر والتبسيط، وأخرج مجمع اللغة “معجم ألفاظ القرآن الكريم“.

أما المعجم الكبير، وهو المشروع الطموح الذي يتبناه مجمع اللغة العربية فلم يخرج منه سوى ثلاثة أجزاء، وقد صدر الجزء الأول منه عام (1380هـ= 1960م)، والمعجم ضخم أريد به أن يضم جميع كلمات العربية الواردة في أمهات المعاجم، دون الوقوف على عصر الاستشهاد الذي يُعد القرن الثاني الهجري نهايته، بل يضاف إلى هذا العصر العصور التالية.

وعني مجمع اللغة العربية عناية واضحة بوضع مصطلحات عربية للعلوم والفنون والآداب، ولم تُبارِهِ في هذا العمل هيئة عملية أخرى؛ فقد كوّن منذ نشأته لجانا علمية متخصصة للكيمياء والفيزياء والصيدلية والطب والجيولوجيا والفلسفة، وغيرها تُعنى بلغة العلم، وتقول كلمتها فيها، وقد أصدر المجمع عدة معاجم علمية متخصصة، مثل: المعجم الفلسفي، والمعجم الجغرافي، ومعجم الفيزياء النووية، ومعجم الفيزياء الحديثة، والمعجم الجغرافي، ومعجم الفيزياء النووية، ومعجم الفيزياء الحديثة، والمعجم الجيولوجي، والمعجم البيولوجي.

ووجه المجمع جزءًا من نشاطه إلى تشجيع الإنتاج الأدبي، ورصد الجوائز للأعمال المتميزة، وقد فاز بجوائز المجمع من صاروا بعد ذلك من الأسماء اللامعة، ويأتي في مقدمتهم “نجيب محفوظ” الحاصل على جائزة “نوبل” في الأدب، والدكتور “شوقي ضيف” رئيس مجمع اللغة العربية الحالي، ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد الأسمر، وسهير القلماوي، وعائشة عبد الرحمن.

وعُني المجمع بنشر عدد من عيون التراث العربي في اللغة، مثل:

  • “التكملة والذيل والصلة” للصاغاني، في ستة أجزاء.
  • وديواني الأدب للفارابي، في خمسة أجزاء.
  • وكتاب “الأفعال” للسرقسطي، في أربعة أجزاء.
  • وكتاب “الجيم” للشيباني، في أربعة أجزاء.
  • وكتاب “غريب الحديث” لأبي عبيد القاسم بن سلام، في خمسة أجزاء.
  • وكتاب “التكملة والذيل والصلة” للزبيدي، في ثمانية أجزاء.

وعُني المجمع بقضايا تيسير اللغة العربية في قواعدها النحوية والصرفية، وتيسير كتابتها، وإجازة كثير من الألفاظ والأساليب المستحدثة ما دامت تسمح بها القواعد والضوابط اللغوية، وقد تضمنت هذه التيسيرات كتبا خاصة أصدرها المجمع بخصوص هذا الشأن، وهي:

  • مجموعة القرارات العلمية.
  • في أصول اللغة، ثلاثة أجزاء.
  • الألفاظ والأساليب.
  • مجموعة القرارات العلمية التي أصدرها المجمع في خمسين عامًا.

ويصدر المجمع مجلة باسمه لنشر بحوث الأعضاء وخبرائه وغيرهم من كبار الباحثين، وقد تجاوز ما صدر منها سبعين جزءًا، بالإضافة إلى نشر محاضر جلسات المجتمع ومؤتمره، التي تتضمن مناقشات الأعضاء.

ولا يزال المجمع يؤدي رسالته في خدمة اللغة والنهوض بها حتى تفيَ بمتطلبات العصر، وتسد حاجات العلم والتكنولوجيا.


من مصادر الدراسة:

إبراهيم بيومي مدكور ـ مع الخالدين ـ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ـ القاهرة (1401هـ= 1981م).

شوقي ضيف ـ مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا ـ القاهرة (1404هـ- 1981م).

عبد المنعم الدسوقي الجميعي ـ مجمع اللغة العربية دراسة تاريخية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة (1983).

إبراهيم الترزي ـ التراث المجمعي في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.