تساءل د. خالد فهمي، أستاذ اللغويات بآداب المنوفية، والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، عن الأسباب التي أدت إلى تراجع اللغة العربية “على النحو المزري”، حسب تعبيره.وأشار فهمي، في مفارقة تبعث على الدهشة، إلى أن العربية كانت لغة عالمية في حقبة قريبة للغاية، قبل أربعة قرون.

 

وأوضح الخبير بمجمع اللغة، في ندوة عقدت بالقاهرة عن اللغة العربية بمناسبة الاحتفاء بيومها العالمي، بقصر ثقافة المطرية، وأدارها الشاعر ناصر صلاح؛ أن ثمة أسبابًا كثيرة وراء تراجع العربية، ومن أهمها ما يتعلق بالبعد السياسي الذي يمكِّن للعربية في ظروف ما تتصل بوعي الشعوب وإصرارها، ثم يتراجع هذا التمكين دون أسباب معلنة.

وأكد خالد فهمي أن اللغة العربية قادرة على المنافسة، وعلى استعادة دورها العالمي.. مشيرًا إلى أن اعتماد اللغة العربية كإحدى اللغات الستة المعترف بها رسميًّا في أروقة الأمم المتحدة، والذي أعلن في 18 ديسمبر 1973، يثبت أن اللغة العربية وباعتراف أممي قادرة على أن تنهض بالمسئوليات التي تقوم بها أكثر اللغات انتشارًا؛ من حيث التعبير عن القوانين والوثائق واستيعاب مستجدات العلوم والمعارف الإنسانية.

وذكر فهمي أن هذا القرار له أهمية كبرى، وأن الأمم المتحدة أقدمت عليه رغم ما له من تكلفة اقتصادية، حيث يتطلب أن يُخصص للعربية هيئة مساوية للغات الخمسة التي سبقتها في التداول العالمي، تتكون من مترجمين ومحررين وباحثين، لتتم الترجمة الفورية للقرارات والوثائق الأممية.

ورجَّح فهمي أن يكون لاستعادة العرب بعضًا من مكانتهم على المسرح الدول بانتصار أكتوبر 73، أثرٌ في دفع الأمم المتحدة لاتخاذ قرار اعتماد اللغة العربية، مشيرًا إلى أن ذلك سبقته فترة “اختبار” لمدة عشرين عام حتى اتضح أن العربية تمتلك مقومات العالمية.

وأضاف: منذ خمسينات القرن الماضي، بُذلت جهود كثيرة أدت إلى إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 ديسمبر 1954، قرارًا يجيز الترجمة التحريرية فقط إلى اللغة العربية، ويقيد عدد صفحات ذلك بـ4 آلاف صفحة في السنة، وعلى أن تكون هذه الوثائق ذات طبيعة سياسية أو قانونية تهم المنطقة العربية.

وأوضح الخبير بمجمع اللغة العربية أن هناك مجموعة من المحددات إذا توافرت في أي لغة صارت هذه اللغة مؤهلة لأن تكون لغة عالمية.. مؤكدًا أن هذه المحددات تتوافر في “العربية” بامتياز.

وأول هذه المحددات- بحسب خالد فهمي- الانتشار، أي كثرة الناطقين بها، فالعربية تأتي في المركز الثالث عالميًّا من حيث الانتشار، يزاحمها على هذه المرتبة اللغة الصينية. وهذا الانتشار بسبب أن المسلمين، الذين يزيد عددهم على مليار ونصف المليار، يرون في العربية “مادةَ إيمانٍ وتعبُّدٍ لله تعالى”، بحسب تعبيره.

أما المحدد الثاني فهو ما أسماه خالد فهمي “مقبولية نظام اللغة العربية”، فالعربية وفق أنظمة العالم من أكثر اللغات مقبولية، وتستمد هذه المقبولية من أمرين: بساطة القاعدة العربية.. ومنطقية ومعقولية العربية.

وأضاف: اللغة العربية لها مقبولية في إطارها النحوي والقاعدي والتصريف. وقواعدها تستقيم مع قواعد المنطق، فالنطق مرتبط بما يُكتب؛ حتى ما يُكتب ولا يُنطق يسير وفق قاعدة وليس أمرًا عشوائيًّا، كما في بعض اللغات التي يصعب التعامل معها وفق نظامٍ قاعدي محكم.

ثم يأتي الأمر الثالث، وهو كثافة الخدمة اللسانية للغة، وفيه أكد خالد فهمي أن اللغة العربية وبشهادة كثير من المستشرقين أنفسهم خُدمت، وبشكل يتأبَّى على الحصر، في كل ما يتصل بعلومها؛ بحيث نكون أمام عشرات بل مئات وربما آلاف الكتب في الفرع الواحد، وعلى مستويات متعددة من التوضيح والإفهام.

وذكر فهمي مقولة لأحد المستشرقين قرر فيها أن “تاريخ علم اللغات عند العرب تاريخ مزدهر”، موضحًا أن هذه الخدمة تجعل دراسة العربية أمرًا ميسورًا حتى لغير الناطقين بها، مقارنةً باللغات الأخرى التي لم تتوافر لها مثل هذه الجهود.

أما فيما يتصل باليوم العالمي للغة العربية، والذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، فقد رأى خالد فهمي أنه حدث كبير يبرز مكانة العربية، ويشهد على قدرتها لأن تكون عالمية، وأنها ليست بأقل من اللغات التي تُكتب بها العلوم والمعارف الآن، وربما تفوقها من حيث المرونة والسهولة.

واتفق فهمي مع ما ذكره أحد الباحثين من أن اعتماد اللغة العربية لغةً سادسةً في الأمم المتحدة، يمثل الاختبار الثاني الحقيقي لها على مدى تاريخها كله، بعد اختبارها الأول الذي تمثل في نزول القرآن الكريم بها، وفي قدرتها لاحقًا على استيعاب النقلة الحضارية التي نقلها الإسلام للعرب، دون أن تضيق بما استجد من علوم ومعارف.

وأضاف: لقد كان للقرآن الكريم كبير الأثر في اللغة العربية من حيث البقاء، فاحتفظت بنظامها الصوتي والصرفي والتركيبي وبمجمل نظامها الدلالي، فلا توجد لغة في العالم استمرت كما هي لمدة ثلاثة قرون إلا العربية.. ومن حيث التطوير، فالقرآن انتقل بالعربية نقلة نوعية.. ومن حيث أنه فتح لها مجالات جديدة للحياة والاستثمار لم يكن للعرب بها سابق معرفة.

وفي نقطة مهمة تتصل بالمقومات التي تجعل العربية لغة عالمية، أوضح الخبير بمجمع اللغة العربية أن اللغات تحيا باستصحاب التاريخ القوي الذي يدفعها للنهوض مجددًا عند الأزمات.. وبأن يكون لها أهداف في المستقبل تضمن انتشارها.

وأكد فهمي أن هذين الأمرين يتوافران وبوضوح في العربية؛ فهي ذات تجربة تاريخية مشرقة، وهي حاملة لدين عالمي لا ينحصر في جنس ولا جغرافيا، وقادر على الانتشار والمنافسة.. ولهذا كانت “العربية” في جميع أطالس العالم، في حجم متزايد دائمًا.

وأوضح الخبير بمجمع اللغة العربية أهمية التعريب، دون أن يعني الدخولَ في جدال عقيم حول المفاضلة بين اللغات، أو الاستغناء عن اللغات الأخرى؛ لافتًا إلى الإنجازات الكبيرة التي حققتها المجامع العربية في تيسير وتذليل اللغة، وآخرها “معجم الدوحة التاريخي” الذي تم تدشين مرحلته الأولى من أيام قليلة.

وفي هذا الصدد، أشار إلى تجربة محمد علي التي حرصت على تدريس الطب بالعربية، رغم أن مصر حينئذ كانت ما تزال تضع أقدامها على سلم النهوض الحضاري.

وذكر أن الفنون، من مسرح وأفلام وغيرها، بها تجارب كثيرة تثبت قدرة اللغة العربية على أن تكون أداة جيدة للتواصل والترفيه، ولكل أغراض الإنسان في حياته.

وأكد خالد فهمي أن استعادة اللغة العربية مكانتها ليس أمرًا صعبًا، وإنما يحتاج ما أسماه “العاطفة الراشدة المنضبطة”، وأن يكون أبناؤها أوفياء بررة يعملون على تطويرها وإثرائها.