كان العرب الأولون رأس بضاعتهم الكلام. وهم الجنس الوحيد الذين رأيناهم يقيمون أسواقًا للكلام، لعرض مواهبهم اللغوية التي تصور المعاني والأحاسيس، وذلك في سوق ذي المجاز وعكاظ، وكان هناك المحكّمون والجمهور، ومن يعرض مواهبهم من الرجال والنساء.

فقد كان النابغة الذبياني “تضرب له قبة في سوق عكاظ، وتنشده الشعراء أشعارها، فأنشده الأعشى شعرًا فاستحسنه، ثم أنشدته الخنساء قصيدة حتى انتهت إلى قولها:

وإن صخرًا لوالينا وسيدنا … وإن صخرًا إذا نشتو لنحّار

وإن صخرًا لتأتم الهداة به … كأنه علم في رأسه نار

فقال: والله لولا أن أبا بصير الأعشى أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، أنت والله أشعر من كل ذات مثانة.

فقالت: إي والله، ومن كل ذي خصيين”([1]).

وقد كان احتكاك العرب بغيرهم من الشعوب قليلاً جدًّا إلا من بعض العرب الذين تمرسوا بالتجارة، وخرجوا بها إلى البلدان المجاورة، لذا كانت لغتهم إلى حد كبير خالية من الدخيل اللغوي.

فلما جاءهم الإسلام برسالته، وأمرهم بتبليغ دعوته، خرجوا من جزيرتهم إلى العالمين…

هذا العالم الذي كان يحتاج إلى الزاد الروحي النقي الصافي الذي افتقدوه قرونًا طويلة…

والعرب كانوا مفتقدين للعلم المادي الذي برع فيه غيرهم من الأمم.

فلغتهم هي لغة الإسلام، فمن أراد تعلم الإسلام لابد من مروره على اللغة العربية، والعرب لبناء حضارتهم بدءوا عملية ضخمة من الترجمة لعلوم الأمم الأخرى، ولم يجدوا في ذلك غضاضة، أو حطًّا من شأن لغتهم، بل استوعبت العربية تلك المنجزات العلمية، وأصبحت المراجع العربية للعلوم متوفرة للباحثين، والذين بدورهم أضافوا وطوروا ونقدوا… إلخ.

وقد اختلطت العربية بلغات أخرى، ودخلت إلى معاجمها مفردات جديدة، ومصطلحات جديدة، فكان التأثير والتأثر…

شعوب كتبت لغاتها بالأحرف العربية مثل: الفرس والترك والأفغان…

وفي المقابل دخلت كلمات ومصطلحات في لغة العرب، وقد سجلها علماء العربية في معاجمهم، ولم يروا في ذلك بأسًا، وكتبوا في المعرّب والدخيل. فالعرب كانوا أقوياء، ولغتهم كانت قوية. وكانت لغتهم لغة العلم والثقافة والحضارة.

يقول الدكتور محمد عباسة: “لم تنحصر اللغة العربية في المناطق الأندلسية ذات السيادة الإسلامية، بل انتشرت كذلك في ليون وقشتالة ونفارا وغيرها من المناطق الإسبانية، وتحدث بها النصارى. ولما استولى النصارى بقيادة ألفونسو السادس على طليطلة، بقيت اللغة العربية لعدة قرون تستخدم في المجال الإداري وفي الحياة اليومية.

أما الفلاسفة والمفكرون الأوربيون، في القرون الوسطى، فكان تعلم اللغة العربية عندهم شرطًا من شروط المعرفة.

لقد كان الفيلسوف الأسباني المتصوف رايموندو لوليو (ت 715 هـ – 1315 م) يكتب العربية كما يكتب لغته الكتالونية.

وفي جزيرة صقلية كان الأمراء النورمان يتحدثون باللغة العربية وجعلوها لغة القصر إلى جانب لغتهم الأصلية.

إن الأوربيين في القرون الوسطى، كانوا واثقين من أن كل تقدم فكري أو ثقافي في بلادهم يجب أن يرجع إلى الاحتكاك بالمسلمين.

ويلاحظ على رجالات الكنيسة الإفرنج المستقلين أنهم أولوا اهتمامًا خاصًّا بالثقافة العربية الإسلامية، وذلك على الرغم من عدائهم للمسلمين”([2]).

ثم دالت دولتهم، وضعفت شوكتهم، وجرت عليهم سنة الأولين. وضعف اللغة من ضعف الشعوب، وقوتها من قوة الشعوب. فالعجز ليس في اللغة، بل في أصحابها.

وقد كانت العربية هي الرابط بين الشعوب الإسلامية، لكن لما حلّ الاستعمار بساحتنا، وضرب بخيمته في أرضنا، حاول جاهدًا فرض لغته علينا. وشجّع العامية، وقام بفرضها في المناهج التعليمية في بعض البلدان([3]).

ووصلت مرحلة التغريب أوجها عندما استخدم أتاتورك الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي في كتابة اللغة التركية. وأصبحت لغة المستعمر هي لغة النخبة والمثقفين وعلية القوم في بلادنا العربية. وأصبح التعليم بلغة المحتل. فلما أُجلي عن ديارنا ترك آثاره التغريبية فينا.

وقد قاوم بعض الغيورين هذا التغريب اللغوي والثقافي، ودعوا إلى تعريب العلوم المستقدمة من الغرب؛ إذ إن اللغة العربية تسع هذه المصطلحات، ويمكنها مواكبة كل جديد، بدلاً من التعليم باللغة الأجنبية.

ورفع بعضهم شعار: نعم لتعلّم اللغة الأجنبية، لا للتعليم باللغة الأجنبية.

ورغم هذا فإن الجامعات العربية لا زالت تدرس الطب باللغة الأجنبية، رغم الجهود التي قامت بها بعض المجامع اللغوية، وتعد كلية الطب في جامعة دمشق الكلية الوحيدة في العالم التي تدرس الطب باللغة العربية.

ولكن قد اتسع الخرق على الراقع، وتوغل التغريب اللغوي في الشعوب العربية، وبلغ مستوى خطيرا، إذ بلغ للشرائح الدنيا من المجتمعات.

ومن العجيب أنك ترى في بعض المطارات بالدول العربية موظفين ليسوا عربًا يتكلمون باللغة الإنجليزية، وبدلاً من أن يتكلم هذا الموظف بلغة العرب، نتكلم نحن معه باللغة الإنجليزية.

والأعجب أنها ليست لغتنا الأم ولا حتى لغة هذا الموظف، لكنها أصبحت لغة التواصل العالمية حتى على أرضنا.

وكذلك نجد في خطوط طيران بعض البلدان العربية أن المضيفات لا يتكلمن إلا الإنجليزية مع أن الخطوط لدولة عربية، ومعظم الركاب عرب. وفي بعض البلدان العربية بلغ التغريب أن التعامل التجاري والبيع والشراء كله بلغة أجنبية.

وكل هذه الأمور تدفعنا للخوف على هويتنا، والتساؤل: متى يقف قطار التغريب اللغوي في مجتمعاتنا.

لقد كنا ننادي بتعريب العلوم واليوم صرنا ننادي بتعريب اللسان ذاته.

هذا اللسان العربي الذي مازجته اللغة الأجنبية فمزجته، فأصبح المستمع لا يعرف هوية من يحدثه، أهو عربي أم هو خليط، فلا هو عربي خالص، ولا أجنبي خالص، فهو لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.

الأزمة عظيمة مستفحلة، والحكومات والجماعات الإسلامية والمجامع اللغوية عليها الوقوف والتصدي لهذا التغريب اللغوي، وإلا فإن العروبة في خطر.


([1]) خزانة الأدب للبغدادي، (8/112-113).

([2]) من مقالة للدكتور محمد عباسة بعنوان: العلاقات الثقافية بين العرب والفرنجة.

([3]) حدث ذلك في الجزائر.