الحياء لبنة حضارية، ولا ريب أن النقلة الأخلاقية عنصر حيوي لاستكمال البناء الحضاري، وأساس كل مشروع يهدف إلى تحقيق النهضة، أو على الأقل توفير شروطها. لذا تستمد منظومة القيم لكل أمة أو جماعة أهميتها ومشروعيتها من كونها حارسة للهوية، وصائنة للانتماء، وإطارًا مرجعيًا للمبادرة الفردية والجماعية.
من هذا المنطلق يكتسب الدفاع عن الأخلاق الإسلامية وجاهته وضرورته في عالم يُصرّ على استنبات قيم جديدة تلغي الفروق العقدية والفكرية، وتهمل الخصوصيات الحضارية للأمم. فتحت مسمى (الإنسانية) و(الكونية) يجري الالتفاف بخبث ودهاء على المنبع الذي تنهل منه الأخلاق الإسلامية سماتها وتفردها، كما يتم، في الآن ذاته، التحريض على الفكاك منها بدعوى انغلاقها وعجزها عن التلاؤم مع شروط الانتساب للعالم المتقدم!
وإذ نثمن الجهود التي تُبذل في الوقت الحاضر لاستعادة الشخصية الإسلامية، وحفز المسلم المعاصر على التمسك بقيمه، وتوجيه سلوكه ومعاملاته بما يضمن تحقيق مراد الله تعالى من بعثة الرسل وإنزال الكتب، لا يسعنا في المقابل إلا التنبيه على ضرورة التقدم خطوة إلى الأمام، وكشف التلازم بين التخلق بأخلاق الإسلام وتشكيل نسق حضاري قائم على العطاء والإبداع والتحرر من الخرافة والوهم.
إن للأخلاق الإسلامية أثرها على الفرد والمجتمع، وهذا أمر بَيّن لا يحتاج منا إلى تدليل، لكن ما يُعوز المسلم في الوقت الراهن هو استجلاء فعاليتها في ردم صور التبعية والتخلف، والانجذاب المفرط صوب قيم الغرب وتمثلاته. فالحديث مثلًاعن خلق الإيثار والحياء في عالم مُشبع بمظاهر الأنانية المفرطة والتحرر من العفة، لن يُحقق مبتغاه بركونه إلى تحريك الوجدان، والحنين إلى مجتمع السلف الصالح الذي أفلح في تطبيقها وتمثلها. وهذا ما يضعنا أمام تحد كبير قوامه: تأكيد الفعالية الحضارية للأخلاق الإسلامية.
جاء في الحديث النبوي الشريف أن: “الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) وتخصيص الحياء هنا بالذكر دون غيره من الشعب تأكيد على عظم شأنه وعلو قدره، فهو السجية التي بها قوام الدين وعليها مداره.لذا نلمح في ورود الأحاديث بشأنه حرصًا نبويًا على التحذير من مغبة التفريط فيه، لأنه الحائل دون الانسلاخ من الدين بالكلية، كقوله ﷺ: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (رواه البخاري من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه).والحياء كما يُعرفه الإمام النووي رحمه الله: “انقباض وخشية يجدها الإنسان من نفسه عندما يُطلع منه على قبيح” (الإمام محيي الدين بن شرف النووي : بستان العارفين . دار البشائر الإسلامية . ط 6 – 1427هـ . ص 129).
بيد أن هذا التعريف يقصر في الحقيقة عن بلوغ المراد من الحياء كما ألمحت إليه جملة من الأحاديث الشريفة، فحصول الانقباض هنا برأي الإمام مرتبط بانكشاف المعصية للآخرين، وبالتالي فهو أقرب للحرج بتعبيرنا المعاصر، بينما خلق الحياء ينطوي على بُعد وقائي يصون النفس من الوقوع في الإثم، أو حتى التفكير فيه !
أما الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي فيرى أن الحياء خُلق: “يتولد من مطالعة نعم الله ورؤية التقصير في شكرها” (الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي : جامع العلوم و الحكم . دار البيان الحديثة . ط1 – 1422 هـ . ص 248). ويميز بين نوعين من الحياء: فطري يُنعم الله تعالى به على من يشاء من عباده، وآخر يكتسبه المرء من معرفته بعظمة الله وقربه واطلاعه على خلقه، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. وحديث الإمام هنا عن الحالة الناشئة من مطالعة النعم ورؤية التقصير يُكسب الحياء دلالة أعمق تتخطى حدود الذات صوب تحقيق الفاعلية الحضارية المنشودة، فلا تكون الغاية فقط تزكية النفس بل تمتد إلى تحريك الهمم للنهوض بواجب الاستخلاف. فمن تفكر في الموجودات، وشاهد عناصر التكريم الرباني، ثم استعرض حاله في الإقبال والإدبار تولد في نفسه الحياء من الله، وأدرك عظم تقصيره في تحقيق مراد الله.
فالعالِم المسلم يستحي من الله أن تشيع الخرافة والجهل وألوان البدع في بلاد المسلمين ثم لا يبذل وسعه للتصدي لها وكشف زيغها وانحرافها عن المنهج الرباني.والطبيب المسلم يستحي من الله أن يُرى فاتر الهمة في تخفيف ألم أو إجراء فحوص لمرضى يفترشون ردهة المستوصف، بينما الآلاف من أطباء الملل الأخرى يجوبون القرى المنكوبة والأدغال الموحشة باسم الإنسانية أو باسم المسيح!
والمُزارع المسلم يستحي من الله أن يُطعم الأمة ما التاث من نبات الأرض بالسموم والمبيدات الضارة، فلاتشغله مكاسب الربح عن طلب الحلال وإعفاف النفس واستحضار مراقبة الله تعالى.
والأمة الموصوفة بالخيرية والشهود الحضاري تستحي أن تُرى عالة على الأمم الأخرى في مطعمها وملبسها وسائر ضرورات حياتها. فتستحث همم أبنائها، وقواهم المعنوية والمادية ليتصرفوا في الكون وفق منهج رباني ضمن لسلفهم الريادة والتمكين.
أما تمييز الإمام بين الحياء الفطري والمكتسب فيُحيل ضمنًا على ما يتطلبه ترسيخ الحياء في سلوك الفرد من جهد تربوي يقع على عاتق الأسرة باعتبارها المحضن الأول. غير أنه جهد لا ينبغي أن يقف عند صيغ الاحتشام التي تحمل الأسرة صغارها على مراعاتها امتثالًا لأمر إلهي، أو لما جرى عليه العرف والعادة.بل يجب أن يمتد إلى منظومة الأفكار والتصورات التي تحكم علاقته بخالقه أولاً، وبالخلق ثانيًا، وبالكون ثالثًا.
فحياؤه من خالقه، وهو أعلى خصال الإيمان، يحثه على التعاطي بإيجابية مع مبدأ التسخير الذي جعل كل عناصر الكون خادمة له، فيُبادر للعطاء والبناء والإبداع. كما يُجنبه الانصياع لدواعي الفساد التي حذره الحق سبحانه من عواقبها، وضرب له من الأمثال،وساق له من الأخبار ما فيه غُنية وكفاية.
وحياؤه من الخلق يحمله على التمسك بالمثل والقيم الأخلاقية التي تكمن فيها قوة المجتمع الإسلامي، كما يُلزمه بالسعي إلى توثيق عرى الأخوة الإيمانية، ونبذ صور التناحر والعداوة والبغضاء التي تفت عضد الأمة،وتعرضها للهزات والاضطرابات.
أما حياؤه من الكون فلأنه الكتاب المنظور الذي يحوي بديع صنع الله ودلائل عظمته، فيُدرك أن مسؤوليته تجاهه تفرض تسخيرعناصره لما يحقق له المنفعة دون مجاوزة حد الاعتدال والتوسط. وبذلك يتجنب مغبة الانزلاق خلف تصور غربي عدائي يزعم مركزية الوجود الإنساني، وحقه المطلق في استنزاف محيطه الحيوي وتدجينه.
إن أهم خصائص الحضارة الإسلامية أنها حضارة إيمانية متجددة، يُشكل الدين أقوى دوافع قيامها وازدهارها (د.عبدالعزيز بن عثمان التويجري: خصائص الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل.منشورات إيسيسكو. 1423هـ) لذا فإن شعب الإيمان التي تفوق الستين شعبة بنص الحديث الشريف تشكل لبنات التجديد الحضاري، وركائز مهمة لتقوية كيان الأمة وتجديد عطائها واستئناف مهمتها في نشر قيم الإسلام وتعاليمه السمحة. ومحاولتنا لتأكيد الفعالية الحضارية لخلق الحياء هي في الواقع دعوة لإرساء منظور جديد للأخلاق الإسلامية لا يحصر غايتها في تزكية النفس، والحؤول دون انقيادها لدواعي الانحلال والتردي، بل يطمح في جعلها قاعدة صلبة لتجديد أساليب الحياة العامة في شتى المرافق والمجالات، واعتمادها منطلقاً للإرادة الحرة التي تروم تقويم الأوضاع، وترشيد الجهود، والاستجابة الكفؤة لمطلب التحدي الحضاري.
حميد بن خيبش5>