“الكتاب الجيد يحرر الإنسانَ الذي يقرأه، أما التلفزيون الجيد فيعتقل الإنسان الذي يشاهده”[1] هذا الاقتباس يتأكد عندما نعلم أن حجم الإنتاج العربي في الدراما التلفزيونية في رمضان 2019م قارب الأربعين ساعة يوميا حيث بلغ عدد المسلسلات المدرجة للعرض (61) عملا، بمتوسط (40) دقيقة للحلقة الواحدة.

وفي ظل بقاء أغلب الأسرة في المنزل بفعل الحظر، يصبح الأفراد أسرى للشاشة وما تقدمه من دراما،  التي تلتقي مع الإعلام في أنهما “فن توصيل المعلومة للناس” من خلال الاعتماد على التشويق وتوظيف العناصر الجمالية لتحريك العواطف.

وفي محاولة للاقتراب من فهم تأثير الدراما التلفزيونية (في رمضان خصوصا)[2] في المجتمع جاء كتاب “الدراما التلفزيونية وأثرها في المجتمع” لـ”حيدر محمد الكعبي” والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية عام 2019 م في 114 صفحة، ليؤكد أن التلفزيون مازال محتفظا بنقاط قوة وبريق لم يخفت، ولتحتل الدراما الموقع الأفضل والأقوى فيما يقدمه التلفزيون من برامج.

تأثير الدراما

تؤثر الدراما التلفزيونية في رمضان على وجه الخصوص، في القيم والأذواق بل والكلمات، فكثير من أعمالها تتحول إلى أحاديث بين الناس، وأفكار تتحرك في المجتمع يتداولها أشخاص كُثُر؛ بل يتسمى بعض الأطفال بأسماء أبطال المسلسلات العربية، كما تنعكس ما تطرحه في أذواق الناس، ويُستخدم بعض الأبطال في الدراما الناجحة في عمليات الترويج السلعي والسياحي.

وتواجه الرسالة الإعلامية للدراما ثلاث عقبات من حيث قدرتها التأثيرية في الجماهير، تتمثل في عدم التعرض لها، والتعاطي القيمي مع ما تطرحه، ومخالفة ميول المشاهد لمحتواها، غير أنه تم التحايل على هذه العقبات، في ظل تعرض أغلب الأشخاص للدراما، وتنوع  القنوات التي تعرضها، ومخاطبتها للميول المختلفة، إلا أن مسألة التعاطي القيمي مع رسالة الدراما من أكثر العقبات التي يصعب اختراقها، خاصة تلك الأعمال التي لها رؤية تغييرية.

ويلاحظ أن المؤسسات الاعلامية التي تستهدف التغيير الثقافي المجتمعي تعتمد على منهج يقوم على أربعة أركان:

ــ جذب الجمهور المستهدف، من خلال الحرص على عدم تناول موضوعات لا تدخل في نطاق خبراتهم المباشرة.

ــ التركيزعلى التناقضات الاجتماعية التي يعيشها الجمهور المستهدف لإقناعهم بوجود خلل في منظومة القيم التي يعتنقونها.

ــ عرض نماذج بشرية مثالية ومؤثرة تعتنق أنساق وقيم تناقض القيم الأصلية للجمهور المستهدف.

ــ اتباع أسلوب التكرار والكثافة في العرض.

ينتزع الانتاج الدرامي من الحياة نماذج وصور محددة، ثم يعالجها، ويعيد طرحها بصورة تتسم بالتكرار القادر على إبراز التناقضات الاجتماعية، وفي كثير من الأحيان تبث الدراما قيما جديدة، أو تعيد تقديم القيم بصورة جديدة بعد إخضاعها لعملية فك وتركيب وحذف لمكونات وإضافة أخرى، ومن ثم فالمشهد في الدراما ليس عبثيا، فالدراما ترسم من خلال أبطالها نماذج للاقتداء، راسمة حياتهم وإنجازهم، ومواطن التأسي فيهم.

دراما التناقضات

ويلاحظ في كثير من أعمال الدراما التلفزيونية في رمضان أنها ركزت في الدول العربية على التناقضات الاجتماعية، وفي مقدمتها وجود بعض الانحرافات داخل بعض المتدينين، فأبرزت التناقض وركزت الكاميرا عليها مبرزة تفاصيله وسلبياته مما أوجد نفورا من  التدين ذاته؛ وامتد النفور عند البعض إلى قيم الدين ذاته، وكأن الدين يعاني من عدم اتساق معرفي، أو أنه لا يستطيع أن يقدم نماذج بشرية مشرقة قادرة على التفاعل مع الحياة بإيجابية وكفاءة، ومع التكرار تركزت الصورة السلبية للمتدين في الدراما حتى صارت صورة نمطية.

ويطرح الكتاب نموذج المرأة، الذي عالجته الدراما من خلال تقديم نماذج متنوعة، أثرت في ثقافة المجتمع وعلاقاته الانسانية، فقدمت نموذج المرأة المتفلتة من القيم وكيف أنها ضحية لجمود المجتمع وقهره، ثم انتقلت إلى قدرتها على النجاح والصمود أمام التحديات، وللتأكد من تأثير الرسالة كانت تُسند البطولة لممثلات يتسمن بالجمال والجماهيرية، أما الشخصيات التي تبث القيم فإذا وجدت فإنها تأتي باهتة وقليلة الظهور، ولا تُمنح الوقت الكافي لتبليغ رسالتها، التي تتوه وسط التكرار والكثافة للشخصيات الأخرى، بل إن بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية أعطت شرعية لبعض الانحرافات في العلاقة بين المرأة والرجل، كما احتفت بنموذج المرأة التي تنظر بإزدراء إلى الحياة الزوجية والواجبات المنزلية وتربية الأطفال وكررت مقولة: “أن تلك الحياة نوع من العبودية”.

أما نموذج الرجل فلم يكن أقل تشويها، فقدمت الرجل ذو العلاقات النسائية المتعددة، والشاب الذي تنحصر اهتماماته في جذب الفتيات، وحكت بتفصيل ممزوج بالتشويق والإثارة والفكاهة خططه للايقاع بالفتيات، أما صوت الضمير والنصحية فكان يأتي عرضا وهامشيا وبلا جاذبية أو تشويق، وفيما يتعلق بالقيم فيلاحظ أن الدراما كانت تقدم الجزاء العادل على فعل الخطأ مقتصرا على تطبيق العقوبة القانونية، التي كانت تأتي في نهاية العمل بشكل خاطف وسريع، ومن النادر أن تُعطي الدراما مساحة واسعة لتصوير العقاب وألمه مع اختزال مساحة عرض الجريمة أو الخطأ، كذلك من النادر أن ترى في الدراما من يطرح العقاب الأخروي، وهو ما يضرب حاسة الضمير التي منشأها العامل الديني.

وتعد المسلسلات من أهم أشكال الدراما التلفزيونية، ويكمن تأثيرها في أنها تخلق جسرا من الترابط العاطفي بين الأبطال والمشاهدين، إذ يتحول أبطال المسلسل إلى رفقاء روحيين يأخذون حصة لا بأس بها من تفكير الناس وعواطفهم ويحتلون مكانا في مناقشاتهم، لذا كان الأديب الرحل “أحمد خالد توفيق” يقول أن “تمثیلیات التلفزيون تجذب بعض الناس لیس لحبھم للدراما، ولكن لأنھا تتیح لھم نوعًا بارعًا من التلصص على أحوال وبیوت الآخرين”، ويشير الروائي الأسباني “جورج سانتيانا” أن الفارق بين القصة الروائية والقصة الدرامية هو:”أن الروائي يرى الأحداث عن طريق أذهان الآخرين، في حين أن كاتب الدراما يتيح لنا رؤية أذهان الآخرين عن طريق الأحداث” فالدراما تجسد ثقافة البشر، ونفوسهم، ودواخلهم، وتحولهم إلى حسٍ مُشاهد، لكنها لا تجسد الواقع بحذافيره ولكن تضخم أجزاء فيه لصالح الفكرة التي تسعى لبثها.

وفي الحالة العربية تقوم الدراما التلفزيونية بعملية إشباع عاطفي، فهي “تقدم أحلام يقظة كاملة الأركان لمن يعاني من النقص في الإشباع العاطفي”، وهو ما يفسر وجود إقبال على الدراما الرومانسية، خاصة من النساء إذ يجدن فيها ما يسد فراغهن العاطفي، ومن ثم يمكن فهم رواج الدراما التركية المدبلجة المتخمة بالرومانسية، كما أن كثيرا من الشباب يرى أن الجانب العاطفي جدير بالاهتمام، في ظل صعوبة مناقشته داخل الأسرة، فيتم التعويض عن ذلك بالدراما، التي تستثمر تلك الحاجات وتشبعها وفق رؤيتها، أما الدراما الدينية والتاريخية فإنها تزرع رؤية معينة في قناعات الجماهير، إذا جسدت الماضي بطريقة مؤدلجة ذات ارتباط بالواقع أكثر من ارتباطها بالتاريخ.

ويلاحظ في الدراما التلفزيونية الحالية هو إزدياد عدد الحلقات بطريقة مبالغ فيها، وبعض المسلسلات تتجاوز ساعات حلقاتها المائة ساعة، لتفوق بعض الساعات المخصصة لبعض المواد الدراسية الجامعية، وهو ما يعني أننا أمام عملية تثقيف من خلال المشاهدة تفوق ما تبثه المؤسسات التعليمية، وإذا أضفنا أن بعض المسلسلات تُعاد مرة أو اثنين في اليوم فإن الدراما تستحوذ على جزء كبير من اليوم ولا تفسح المجال أمام غيرها من الأنشطة الإنسانية.