تقول السيدة عائشة أم المِؤمنين رضي الله عنها :”أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء. رواه البخاري
هذا التعبير، لهو ، ذو دلالة معرفية روحية مما قد تتميز به السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وفيه إشراقة عرفانية مباشرة غير حائرة أو جائرة ،إذ مصطلح الرؤيا الصالحة واقترانها بالبداية ستكون هي أهم الدعائم المثبتة والموصلة لليقين والتحقيق من غير مواربة فيما سيأتي مستقبلا ،كما عبر عنه ابن عطاء الله السكندري: “من أشرقت بدايته أشرقت نهايته.
والإشراق أو السطوع هو مصدر الرؤية ،وأكثر منه أن يجعل في المنام الذي هو انسكاب في ظرف الليل والظلام الدامس كمحطة للإدراك المباشر للحقيقة في موازاة بينه وظرف النهار، حيث شروق الشمس وانبساط شعاعه وأنواره .
وبهذا فسيتساوى الليل والنهار بالنسبة إلى العارف بالله تعالى ، المتطلع إلى القرب من حضرته، وأعظم منه ذاك المتلقي منه بالخطاب المباشر ،وحيا وكلاما أعجز به من كلام ! .
ليلي بوجهك مشرق
وظلامه في الناس ساري
فالناس في سدف الظلام
ونحن في ضوء النهار (1)
فالرؤيا التي كان يراها النبي سيدنا محمد هي ذات وصف حسن موسوم بالصلاح ، وهذا ضد الفاسد ،أي أن مرآته ﷺ قد كانت صقيلة وبراقة لامعة ومشرقة ،عليها ستنعكس الحقيقة بجلاء ،وهي غير قابلة للانكسار أو التكرش والتكلح، لأنها ليست بظلامية أو زئبقية طاغية ،وإنما هي صافية نقية ونابعة من انشراح الصدر بالكلية، وهي أيضا وذات خصوصية معدنية مادية وروحية معقمة وطاهرة .
وحيث إنها بهذا الوصف الحميد المجيد فلن تعكس على صاحبها إلا ما هو محمود وصدق وحق ، إذ مركز البث لا يمد مركز الاستقبال إلا بحسب توجهه واستعداده، ومناسبة رقمه الدقيق وحاله ،عموديا أم أفقيا.
فحال النبي ﷺ في تلقيه المعرفة عن الحضرة الإلهية كان من خصوصية استقباله على أعلى وأوسع مستوى من الانشراح والاستعداد :”ألم نشرح لك صدرك.
هذه الرؤيا الصالحة ذات خاصية المطابقة أو المناسبة بين المثال والحقيقة والمنام واليقظة، أو بين الليل والنهار ، ستكون واردة في إطار مجتمعي متحرك وليست عن انعزال ساكن، محصور وضيق. أي أن النبي ﷺ قد كان يراها، وهو من داخل المجتمع ،مرتبطا بقومه حركة وسكونا تواصلا وتفاعلا ،وذلك لأن الصدق أو الكذب لا يمكن اختبارهما إلا عند الحركة والتطبيق .
وفي هذا الظرف قد يجد الكلام الإخباري محكَّه الصحيح وتتكرر تجربته موضوعيا وعلميا ، بحيث سيصبح صالحا لأن يكون مادة برهانية عند الحجاج، فهو ﷺ قد عرف عند قومه بالأمين، وبه لقب وأصبح مضرب الأمثال في الصدق والتحكيم عند ملمات الأمور، كما قد صار مركز الاستئمان المالي والعِرْضي والقومي بصفة عامة.
هذا الصدق في الظاهر سيتولد عنه بالضرورة صدق حقيقي في الباطن الذي هو الأصل،كما ذهب إليه علماء الأخلاق والأذواق في هذا المقام من أن تحري صدق الظاهر قد ينتج عنه بالضرورة صدق الباطن وفتح معرفي وعرفاني يصل عالم الغيب بالشهادة .
وهذا المعنى قد جسده النبي ﷺ تجسيدا مطلقا ، سواء على مستوى أحواله الخاصة فيما بينه وبين نفسه، أو على نطاق مجتمعي عام يرصد الأحداث المتواردة عليه والتغيرات الحاصلة فيه فيراها رؤية روحية مشرقة،سيخبر عن بعضها ويُسر البعض الآخر لحين توفر المناسبة ومقتضى المقام.
موضوع الرؤيا الصادقة كمقدمة لبدء الوحي لها دلالات عقدية ومعرفية دقيقة كان ينبغي التوقف عندها واستخلاص العبر والمعاني من موافقاتها ،وهذا ما قلَّ ونذر وجوده عند الباحثين في السيرة سردا أو تحليلا.
بحيث نجد أن غاية ما يعرضه أغلبهم هو أن الرؤيا، أو ما يعبر عنه البعض بالأحلام، قد كانت مقدمة للوحي باعتبارها ذات مصداقية ومطابقة للواقع .وهذا فيه نوع من الصواب ولكن ليس كله.
يقول طه حسين في حوار بين ورقة بن نوفل ونسطاس الرومي حول مسألة بدء الوحي : “سمعت حديثي هذا من خديجة أول الأمر ، فما أنكرت منه شيئا وما شككت في أن هذا الملك الذي جاء محمدا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ،فعرفت أن محمدا لم يفجأ بلقاء الملك ولا بتلقي الوحي وإنما هيئ لذلك شيئا فشيئا حتى أنكر نفسه وأساء بها الظن ؛ فقد جعل قبل أن يأتيه الملك بوقت طويل يرى من آيات ربه شيئا لم يكن يراها من قبل ،فينكر ما يرى ويظن بنفسه العلة ، ويصرفها عما كان يرى ويسمع ،فلا تكاد تنصرف عنه أو لا يكاد ينصرف عنه ما كان يرى ويسمع.
وكان أول أمره من ذلك أن صدقته أحلام الليل صدقا لم يألفه الناس ولم يألفه هو فيما مضى من دهره ،فكان لا يرى رؤيا إلا صدقت وصحت وتحققت كأنها فلق الصبح ، حتى كاد النوم يكون آثر عنده وأحب إليه من اليقظة ، ثم أحس حب الخلوة والحاجة إليها ، فكان لا يلم بمكة إلا قليلا، ثم يخرج منها يمضي أيامه في شعاب الجبال مستأنسا بهذه الوحشة مطمئنا إلى هذه الوحدة” (2) .
في هذا الحوار نجد مطابقة وترتيبا قد يتناسب مع حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، فيما أخرجه البخاري، حينما فصلت بين مرحلة الرؤيا الصادقة أو الصالحة ومرحلة الخلوة ، وذلك بتوظيفها حرف العطف “ثم” الذي قد يوظف للتشريك والمهلة على الصحيح،وللترتيب كما يذهب إليه النحويون والأصوليون على حد سواء …(3)
في حين نجد محمد حسين هيكل يصف هذه المرحلة بقوله:”وكان إذا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب إلى حِراء وعاد إلى تفكير ينضجه شيئا فشيئا وتزداد نفسه به امتلاء، وبعد سنوات شغلت أثنائها هذه الحقائق العليا نفسه ،صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة تنبلج أثناءها أمام باصرته أنوار الحقيقة التي ينشد، ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها .
إذ ذاك آمن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى ،وأن حياتهم الروحية قد أفسدها الخضوع لأوهام الأصنام وما إليها من عقائد متصلة بها ليست دونها ضلالا” (4)
رأي هيكل هنا فيه شيء من التداخل وتشابك المراحل ،بحيث يبدو وكأن النبي ﷺ قد كان يختلي قبل مرحلة الرؤيا وكثافتها الخاصة بقرب الوحي ،وهذا ما لم ينص عليه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها ،كما أن ذكر شهر رمضان هنا فيه تشابه بمرحلة بدء الوحي الذي قد نزل في نفس الشهر.
لكن ابن هشام يذكر أنه :”كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان مما يتحنث به قريش في الجاهلية” . (5)
ثم يضيف، قال عبيد:”فكان رسول الله ﷺ يجاور في حراء من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين ،فإذا قضى رسول الله ﷺ جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به – إذا انصرف من جواره – الكعبة ،قبل أن يدخل بيته،فيطوف بها سبعا،أو ما شاء الله من ذلك ،ثم يرجع إلى بيته … ” (6) .
فضبط المرحلة هاته مهم عند المحققين من العارفين ولا ينبغي أن يقع التداخل بين المقامات فتهدر فترة هذه على حساب هاته ، إذ لكل مقام مقال وحال ومستوى وصال … ولهذا لزم الجمع بين الروايات للوصول إلى استنتاج موضوعي يقسم المراحل بحسب أهدافها وغاياتها وكذلك مقتضياتها ووفتوحاتها.
الهوامش :
(1) أبو القاسم القشيري :الرسالة القشيرية دار الكتاب العربي بيروت ص 180
(2) طه حسين:على هامش السيرة إسلاميات ،منشورات دار الآداب بيروت ص 476
(3) مجوع المتون الكبرى:جمع الجوامع لتاج الدين السبكي ص 140
(4) محمد حسين هيكل :حياة محمد ،مكتبة النهضة المصرية ط13ص 132
(5) ابن هشام:سيرة النبي s ج1 ص253
(6)ابن هشام:سيرة النبي sج1 ص 254