تندرج الرقابة على المال العام ضمن مباحث علم المالية العامة، إذ يحتاج المال العام إلى آليات رقابة تضمن صرفه في الأوجه المخصصة له وتحول دون تبديده أو إنفاقه فيما لا ينبغي له، ولهذا ذهبت غالبية الدول إلى وضع أجهزة إدارية ورقابية تراقب المال العام وتضع الجزاءات التي تحول دون الاجتراء عليه، وهذه الأنظمة الرقابية ليست حديثة العهد كما يتصور البعض فقد عرفتها الأمم السابقة، كما عرفها العرب بعد ظهور الإسلام حيث نشأت في العصور الإسلامية مؤسسات خاصة أوكلت لها مهمة الرقابة على الأموال العامة للمسلمين وضبط أوجه إنفاقها. وفي السطور التالية نتطرق إلى منشأ فكرة الرقابة في التشريع الإسلامي، وبعض المؤسسات المتعلقة بها في التاريخ الإسلامي.

الرقابة المالية في النصوص الإسلامية

عني القرآن الكريم بإعداد الإنسان المسلم إعدادا يستهدف تقوية الضمير والوازع الأخلاقي الداخلي بحيث يكون هو الرقيب على أفعال الإنسان وأقواله بل وحتى أفكاره، والمسلم الحق هو من تنبعث في نفسه هذه الرقابة الذاتية فلا تمتد يده إلى المال الحرام سواء كان عاما أم خاصا، وقد شدد القرآن على أن الضمير هو الرادع الأول للإنسان لا القوانين أو العقوبات الجزائية (بل الإنسان على نفسه بصيرة).

وكذلك أرشد القرآن إلى كيفية التعامل الأمثل مع المال، وذهب في ذلك إلى عدم جواز أكل الأموال بالباطل، ومنعها عن أيدي السفهاء لأن فيه ضياع للمال، ونهى عن الإسراف والتقتير ودعا إلى التوسط والاعتدال في الإنفاق (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)، وهذه الآية وإن كانت معنية بالأموال الخاصة إلا أنها تتعدى إلى الأموال العامة من باب أولى فلا تكون إلا تحت يد أمينة تنفق فيها بالمصلحة لأنها قوام المجتمع، كما نهى القرآن عن “الغلول” وهو نوع من أنواع خيانة المال العام وسطو على مورد من الموارد العامة قبل تقسيمها وهو”الغنائم”، وعقابه لا يكون في الدنيا وحسب وإنما في الآخرة (ومن غل يأت بما غل يوم القيامة).

وأقرت السنة النبوية أيضا مبدأ الرقابة على المال العام، ومارسها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومن ذلك أنه استعمل رجلا من الأزد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه فقال: هذا ما لكم وهذا ما أهدي إلي، فقال له النبي “أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فنظرت أيُهدى لك أم لا؟”، وورد في صحيح مسلم أن رسول الله قال: “من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولًا يأتي به يوم القيامة”، وفي الحديث تغليظ في تحريم الغلول مهما كان مقداره[1].

نشأة مؤسسات الرقابة وتطورها

سار الخلفاء الراشدون على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاسبة العمال ومراقبة الأموال التي تفد إلى المدينة من الأمصار المفتوحة، ومنذ عهد عمر بن الخطاب ازدهرت ميزانية الدولة بسبب الغنائم والفيء والخراج والعشور، فاضطر عمر إلى انتهاج سياسة مالية جديدة، ذلك لأنه لم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة على عهد الرسول وخليفته أبو بكر ديوان وإنما كانت الأموال توزع شيئا فشيئا، فلما آل الأمر إلى عمر أسس الدواوين لأجل ضبط ميزانية الدولة التي كثرت إيراداتها، وبيان كيفية إنفاقها وتحصيلها، وإحكام الرقابة على الإنفاق العام.

ويبين ابن خلدون أن إنشاء الدواوين يحدث في الدول “عند تمكن الغلب والاستيلاء والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد”، أما أبو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) فيبين أن الدواوين وضعت لأجل “حفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة، من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال “وهي على أربعة أقسام أحدها: ما يختص بالجيش من إثبات وعطاء. والثاني: ما يختص بالأعمال من رسوم وحقوق. والثالث: ما يختص بالعمال من تقليد وعزل. والرابع: ما يختص ببيت المال من دخل وخرج”[2].

وقد تطورت الدواوين تطورا كبيرا منذ عهد الدولة الأموية وازداد عددها واتسع دورها، ويمكن أن نذكر من بينها الدواوين المتصلة بالمال العام مثل: ديوان الخراج، وديوان المستغلات أو الواردات، وديوان الخاتم الذي استحدثه معاوية بن أبي سفيان لأجل ختم رسائل الخليفة وتوقيعها وضمان عدم تحريفها، واستمر التطور في عهد الدولة العباسية إذ أنشأ العباسيون عددا من الدواوين المتخصصة ومن بينها: ديوان الخراج، وديوان الزمام أو الأزِمة، وديوان زمام النفقات، وديوان العطاء ومهمته صرف رواتب الجند، وغيرها من الدواوين التي استخدمت أحدث أساليب الإدارة في عصرها واستطاعت تنظيم الإيرادات وضبطها، وكان من بينها دواوين  ووظائف وضعت خصيصا للرقابة على كيفية إنفاق المال العام من مثل:

  • ديوان بيت المال: وقد اضطلع بالمهمة الأولى في الرقابة على الواردات والنفقات، ويذكر ابن قدامة المقدسي في (الخراج وصناعة الكتابة) أن “الغرض منه إنما هو محاسبة صاحب بيت المال، على ما يرد عليه من الأموال، ويخرج من ذلك في وجوه النفقات، والإطلاقات.. وما يرفع إلى ديوان النفقات مما يطلق في وجوه النفقات” ويضيف أن لصاحب هذا الديوان علامة يضعها على الرسائل والصكوك يتفقدها الوزير وخلفاؤه، ويراعونها ويطالبون بها إذا لم يجدوها “لئلا يتخطى أصحابها والمدبرون هذا الديوان، فيختل أمره ولا يتكامل العمل فيه، فإن هذا الديوان إذا استوفيت أعماله كان مال الاستخراج .. مضبوطا”[3]، ويفهم من كلام ابن قدامة أن هذا الديوان كان بمثابة وزارة المالية في عصرنا، ولذلك كان مقره في حاضرة الخلافة وله فروع في كل ولاية، وكانت مهمته ضبط الإيرادات والمصروفات، وإعداد الميزانية ومراقبة تنفيذها، وأن أعمال هذا الديوان ورسائله كانت تقيد بكل دقة بعد توقيعها صيانة لها من التزوير.
  • ديوان  النفقات: وهو المسئول عن الاستحقاقات المالية للوظائف وما يصرف من خزانة الدولة، وصاحب هذا الديوان؛ كما يقول ابن خلدون: “هو الذي يصحح الحسبانات [ الحسابات] كلها، ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير، وخطه [توقيعه] معتبر في صحة الحسبان في الخارج والعطاء”[4]، ويلتفت ابن قدامة إلى أن مهمته كانت تتمثل في محاسبة التجار الذين يتعاملون مع الجهاز الإداري للدولة “وفي هذا المجلس يحاسب التجار الذين يقيمون الوظائف، من الخبز، واللحم، والحيوان، والحلوى، والثلج، والفاكهة والحطب، والزيت وغير ذلك”[5] وكانت تجري مراجعة ما قدموه بدقة وضمان عدم نقصان الكيل والميزان، وتقييد ذلك في دفاتر مثبتة بالديوان.
  •  ديوان الأزِمة: تأسس عام 162 ه، والقصد منه كما يقول ابن تغري بردي[6]” أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كان قبل ذلك الدواوين مختلطة” ولهذا الديوان اختصاصات عدة ومتنوعة، وهو يقوم بالأعمال التي تقوم بها أجهزة المحاسبة التابعة لوزارة المالية في مراقبتها للمال العام في عصرنا، وكانت له سلطة الإشراف على أعمال الدواوين ذات العلاقة بالأموال من واردات ونفقات كالخراج والضياع العامة ورواتب الجند حيث كانت ترفع إليه حساباتها ليقوم بفحصها ومراجعتها.
  • الحسبة، وإلى جوار هذه الدواوين كانت هناك مناصب مسئولة عن الرقابة العامة مثل منصب المحتسب، الذي لعب دورا كبيرا في النظام الرقابي واضطلع بمهام عدة في كافة مناحي الحياة، وما يهمنا هنا هو دوره في مراقبة أعمال الصيرفة والتأكد من دقة وزن النقد وعدم غشه بالمعادن الرديئة، وفي ضبط الأسواق وضمان عدم بيع السلع والخدمات بأزيد من قيمتها، وفي منع التعاملات المالية الربوية ومعاقبة المقرضين بالربا، ولم يكن بوسع المحتسب أن يمارس دوره الرقابي دون أن يساعده بعض الرجال الذين كانوا عيونا له على كل صنعة ويطلق عليهم العرفاء، وكل عريف يكون من ثقاة أهل صنعته يعلم أحوالها وطرائق الغش والتدليس فيها وقادر على اكتشافه، كما كان للمحتسب نواب على الموانئ والحدود مهمتهم مراقبة البضائع وما يدخل إلى البلاد ومنع تهريب المنتجات والأموال[7].

وفي الأخير يمكن القول إن فكرة الرقابة المالية كانت معروفة في العصور الإسلامية، وقد أنشأ المسلمون جهاز رقابي شامل مكون من عدد من الدواوين لأجل تطبيقها، وقد أفلحت هذه الدواوين في المحافظة على موارد الدولة ونظامها الاقتصادي.


[1] عبد العزيز عزة، الدواوين التنفيذية في الدولة الإسلامية أداة فاعلة للرقابة المالية في النظام المالي الإسلامي، عنابة: مجلة التواصل في الإدارة والاقتصاد والقانون، ع51، 2017، 69-70.

[2] أبو يعلى بن الفراء، كتاب الأحكام السلطانية، بيروت: دار الكتب العلمية، 2000، ص 236، 240.

[3] قدامة بن جعفر بن قدامة، الخراج وصناعة الكتابة، بغداد: دار الرشيد للنشر، 1981، ص 36.

[4] ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، بيروت: دار الفكر، 1981، ص 305.

[5] ابن قدامة، المرجع السابق، ص 33.

[6] ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 42/2.

[7] نايف محمد شبيب المتيوتي، إجراءات الدولة الإسلامية في معالجة الأزمات المالية في العصر العباسي، المجلة الدولية للآداب والعلوم الإنسانية، 2019، ص 70-17.