إن لله سننًا لا تتغير ولا تتبدل، يجريها على خلقه جميعًا، من سبق منهم ومن لحق ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 62].

ومطلوب من الإنسان أن يعيها وأن يعمل بمقتضاها، فمن صادمها ولم يعمل بها أو حاول مغالبتها غلبته، وجنى على نفسه جناية السوء.

فمن ذا الذي يقدر على تغيير سنة الله أو تبديلها؟

لا أحد؛ إذ إنه -جل جلاله- خالقُ الخلق ومدبِّر الأمر، والكلُّ فقيرٌ إليه محتاج لمنّته وتفضّله مهما علا شأنه وبلغ سلطانه.

ومن تلك السنن إجابة دعاء الداعين بمقتضى مشيئته، قال -تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186].

حتى إنه -تعالى- ليستجيب دعاء المشركين به إذا لجؤوا إليه وطرقوا بابه، ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 22-23].

فقد “جاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان، وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق، (فـ) أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، (لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها (لنكونن من الشاكرين) لك على نعمك، وتخليصك إيانا مما نحن فيه، بإخلاصنا العبادة لك، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد، فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه، من الكفر به، والعمل بمعاصيه على ظهرها”([1]).

إلا أن البعض في دعائه قد يدعو بما يخالف هذه السنن الموضوعة من حيث لا يعلم، فإذا لم يستجب ربنا دعاءه إذا به يسخط.

أَلا إنه أخطأ السبيل، ولم يعِ هذه السنن.

فمثلاً، هناك من يدعو فيقول: “اللهم ارزقنا سرورًا لا يشوُبه حزن، وسعادةً لا يُعكرها شقاء، وعافية لا تزول“.

وهو يطلب ذلك وهو في الدنيا ولم يقصد بهذا الدعاءِ الآخرةَ!

ألم يعلم أن الدنيا دار شقاء وتعب ونصب، وهي نارٌ للمؤمن، وجنّةٌ للكافر، قال -تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4].

“الكبَد طبيعة الحياة الدنيا تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبَد في النهاية.

فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى.

وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله”([2]).

وعندما خالفت بعض الأدعية سنة الله لم يجبها حتى ولو كان الداعي هو خير الخلق محمد  صلى الله عليه وسلم ، فعن عَامِر بْن سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ : “سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً.

سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا([3]).

فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن افتراق الأمة وتقاتلها سنة ماضية عليها كما مضت على الأولين قال: “هذه أهون وأيسر([4]).

فالأهون أن تظل باقية على خلاف فيها وصراع وشقاق، بدلاً من أن تهلك الأمة قاطبة ويستأصل ربنا شأفتها.

ولم يستجب ربنا لشهداء أحد حينما كلمهم بعد موتهم؛ لما طلبوا رجوعهم إلى الدنيا، فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: “يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا“.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا.

قَالَ: “أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ“.

قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: “مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ.

قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيةً.

قَالَ الرَّبُّ U: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ“.

قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ الآيَةَ [آل عمران: 169]([5]).

فرغم كرامته على الله، وتكليمه إياه دون حجاب، وطلب الله منه أن يطلب ما يريد ويتمنى، إلا أنه -تعالى- ما استجاب طلبه بالرجوع إلى الدنيا؛ إذ هذا مخالف لسنة الله -تعالى- في عدم الرجوع إلى الدنيا بعد الموت من غير حاجة لذلك.

وعليه، فالمسلم يلح في الدعاء، ويطلب ما يحب ما لم يصادم سنة إلهية؛ فمن يطلب السعادة الدائمة والصحة التامة … إلخ، نسي أن الأسقام والآفات تتعرض للإنسان ولا تنفك عنه في الدنيا، فعن عبد الله بن الشخير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مُثِّل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت([6]).

وليس معنى ذلك عجزًا في قدرة الله، أو استحالة ذلك على الله، حاشا وكلا، ولكن الأمر لا يخرج عن كون أن الله أجرى هذه السنن على خلقه، فلا محيص عنها ولا تبديل ولا تغيير.


([1]) تفسير الطبري، (15/51-53) باختصار.

([2]) تفسير الظلال، (6/3910).

([3]) أخرجه مسلم في “الفتن وأشراط الساعة”، باب: “هَلاَك هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ”، ح(2890).

([4]) جزء من حديث أخرجه أحمد في “مسنده”، ح(14355) عن جابر بن عبد الله t قال: لما نزلت ﴿هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم﴾ قال رسول الله r: “أعوذ بوجهك“، فلما نزلت: ﴿أو من تحت أرجلكم﴾ قال رسول الله r: “أعوذ بوجهك“، فلما نزلت: ﴿أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض﴾ قال: “هذه أهون وأيسر“، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”.

([5]) أخرجه الترمذي في “تفسير القرآن”، باب: “وَمِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ”، ح(3010)، وقال أَبُو عِيسَى: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ”، وقد حسنه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”.

([6]) أخرجه الترمذي في “القدر”، ح(2150)، وقال أَبُو عِيسَى: “وهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نعرفه إلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ”، وقد حسنه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”.