السُّفتجة كلمة فارسية معربة، ويقال في الجمع سَفاتِج، وتعريبها: سفته، بمعنى المحكم[1]، وتطلق السفتجة في فقه المعاملات المالية على الرقعة أو الكتاب أو الصك الذي يكتبه المقترض لنائبه أو مدينه في بلد آخر، يلزمه فيه بدفع مثل ما اقترضه في بلده لمن أقرضه أو لنائبه أو دائنه في البلد الآخر. قال النووي: وهو كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه [2].
صورته: وقد مثل لها القاضي عياض فقال: وذلك أن يسلف الرجل في بلد مالا لبعض أهله، ويكتب القابض لنائبه ببلد المسلف ليدفع له عوضه هنالك مما له ببلده خوف الطريق[3].
والسُّفْتَجَةُ في علم الاقتصاد: “حوالة صادرة من دائن، يكلِّف فيها مَدينَه دفعَ مبلغٍ معيَّن في تاريخ معيَّن لإذن شخص ثالث، أَو لإذن الدائن نفسه، أو لإِذن الحامل لهذه الحوالة[4].
يلاحظ التوافق بين كل تعريف فقهي وتعريف اقتصادي، وما زيد في تعريف علم الاقتصاد إنما جاء من باب زيادة التوضيح والتحرير، وهو أمر ضمني في السفتجة القديمة.
المنفعة المتوقعة من السفتجة
من أبرز فوائد السفتجة الواقعية ما يأتي:
1- السلامة من مئونة توفير أجرة حمل المال، لأنه لا يلزم أن يكون القرض نقدا، وقد يكون مالا آخر مما يجوز إقراضه، والذى ربما يحتاج إلى المؤونة والعناء وكثرة الكلفة في النقل، ولكن المقرض يستطيع أن يتفادى ذلك بالسفتجة.
2- الاستفادة من دفع أخطار الطريق، إذ لا ضمانة تمامة لعدم تعرض المال للضياع في الطريق أو للسرقة ونحوها، لا سيما إذا كان المال كبيرا فإنه يجعله في مظنة الخطر، ولذا قد يرى المقرض المصير إلى حيلة السفتجة تجنبا للمخاطرة.
3- الأصل في السفتجة القرض الذي من شأنه إرفاق للمقترض ومعاونته على قضاء حوائجه ونحوها.
أنواع السفتجة
السفتجة نوعان[5]: سفتجة دين وسفتجة قرض.
1- سفتجة دين ثابث: تندرج تحته أنواع من البيوع، كثمن البيع المؤجل والإجارة أو قرض قديم، حيث لو اتفق كل من الدائن والمدين على الوفاء بطريقة السفتجة فلا بأس إذا كان عن تراض بينهما.
2- سفتجة قرض: يمثل هذا النوع دينا جديدا في الذمة الذي قد يطالب في الحال، فالسفتجة في هذه الحالة على صورتين ولكل صورة منهما حكمها.
الصورة الأولى: السفتجة القرضية المطلقة، وهي التى يكون القرض فيها غير مشروط الوفاء في غير بلد القرض، لكن المقترض رأى من حسن القضاء فتفضل كتابة السفتجة من قبل نفسه دون طلب المقرض، ولا خلاف في جواز هذه الصورة بين أهل العلم، بل يعتبر هذا التصرف من باب الإحسان إلى المقرض إذا كان ذلك في صلاحيته، وقد أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي رافع أن الرسول ﷺ استسلف من رجل بِكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال ﷺ:” أعطِه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً[6]
قال الإمام مالك حمه الله: وأما إن أقرضه عيناً فلا حمال فيها – أي لا مؤنة لحملها – إذ لك أخذه بها حيث لقيته، فإن شرطت أخذها ببلد آخر، فإنما يجوز ذلك إذا فعلته رفقاً بصاحبك لا تعتزي أنت به نفعاً من ضمان طريق، ونحوه[7]
وجاء في المغني قوله:” فإن أقرضه مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيراً منه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز، وكذلك إن كتب له بها سفتجة أو قضاه في بلد آخر جاز، ورخص في ذلك ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والشعبي، والزهري، ومكحول، وقتادة، ومالك، والشافعي، وإسحاق[8] “
الصورة الثانية: السفتجة القرضية المقرونة بشرط، وهي على حالتين:
الحالة الأولى: تكون منفعة السفتجة مشتركة بين المقرض والمقترض، وأحيانا تكون السفتجة ” منفعة للمقترض فوق منفعة القرض الأصلية، إذ يسدد القرض في البلد الآخر بناء على رغبته في وفاء القرض من ماله الموجود في هذا البلد، وهذه المنفعة للمقترض صادفت منفعة للمقرض، تمثلت في نقل المال من بلد إلى آخر، مجانًا ومضمونًا “[9] ففي هذه الحالة لا بأس بالجواز فيما يبدو والله أعلم.
الحالة الثانية: تكون منفعة السفتجة متمحضة للمقرض، وإذا شرط المقرض للمقترض أن يوفيه مال القرض إياه في بلد آخر، فلا تخلو المسألة من نظرتين:
النظرة الأولى: أن يكون المال فيه مؤنة الحمل وخطر الطريق، كأن يستدين المدين من الدائن بضاعة أو سلعة ويلبي الطلب بشرط الوفاء في البلد الآخر درءا لأجرة النقل وخطر السير، فيعنى هذا أنه قد أقرضه دينا الذى جر نفعا، وهذا يدخل في باب الربا المحرم، ولذا اتفق أهل العلم على منع السفتجتة في هذه الصورة.
قال ابن المنذر رحمه الله: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا.[10] وفي بلاغيات الإمام مالك أن عمر رضي الله عنه قال في رجل استسلف من رجل طعاما، على أن يعطيه إياه ببلد آخر، فكره ذلك عمر بن الخطاب، وقال: فأين الحمل؟.[11]
النظرة الثانية: أن يكون في شيء لا مئونة فيه، كالنقود ونحوه، كأن يقول المقرض: أقرضتك مائة درهم وتكتب لي سفتجة إلى بلد كذا لأخذه هنالك، ففي هذه الحالة تباينت أقوال الفقهاء في مشروعة السفتجة على ثلاثة آراء في المشهور:
الرأي الأول: القول بالمنع، وبه قال الجمهور، لأن الأصل في السفتجة أنه قرض الذي شأنه من عقود التبرعات والإرفاق، وإذا ترتب عليه طلب أو شرط النفع فإنه يدخل في قاعدة ” كلّ قرض جرّ منفعةً فهو ربا”
الرأي الثاني: القول بالكراهة، أي تردد بين أن يكون مباحا وبين أن يكون حراما فيتجه حمله على الكراهة. وروي ذلك عن الحسن البصري، وميمون بن أبي شبيب، وعبدة بن أبي لبابة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي كما في المغني.
الرأي الثالث: القول بالجواز، وهو ما ذهب إليه الحنابلة ومن وافقهم، استنادا لفعل بعض الصحابة وفتواهم والتابعين لهم.
وحكى ذلك ابن المنذر عن علي، وابن عباس، والحسن بن علي، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب السختياني، والثوري، وأحمد، وإسحاق.[12]
وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه. فسئل عن ذلك ابن عباس، فلم ير به بأسا، وروي عن علي – رضي الله عنه – أنه سئل عن مثل هذا، فلم ير به بأسا.
قال موفق الدين ابن قدامة: والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما – أي المقرض والمقترض – من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها. ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤه على الإباحة.[13]
وقال الإمام ابن تيمية – مؤيدا لهذا القول -: لأن كلا من المقرض والمقترض منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم.[14]
والمصير إلى هذا القول أليق بمقاصد الشريعة من حيث التعاون والإرفاق فيما لم يكن اثما، ولأن الأصل في المعاملات الحل والجواز وهذا العقد من ضمن المعاملات. والله أعلم.
السفتجة والحوالة
الحوالة على ضوء المعنى الفقهي تعني نقل الدين الثابت في ذمة إلى ذمة أخرى،وعند إمعان النظر قد يمكن القول بأن بين السفتجة والحوالة عموم وخصوص، فكلاهما يتفقان من حيث العموم أحيانا، عندما يحيل المقترض المقرض إلى شخص آخر في بلد آخر ليوفيه حقه، وهذه الصورة قد ترد في كل السفتجة والحوالة، إلا أنهما يختلفان من حيث اختصاص السفتجة بباب القرض – كما هو مقرر عند الجمهور – والحوالة لا تكون إلا في الدين ثابت في الذمة.
اجتماع السفتجة والحوالة المصرفية
من المعاملات المالية التي عمت بها البلوى الحوالات المصرفية الحديثة، حينما يأتي أحدنا إلى الصراف ويسلم له مبلغا للتحويل إلى بلد ما لوكيله أو أهله، وفي ضوء التكييف الفقهي لهذه الصفقة نجد أن العميل لا يريد القيام بهذا التحويل إلا لتفادي مئونة تكلفة السفر وخطره، ومن هنا دخلت المعاملة في مسألة السفتجة القديمة؛ وإن كانت صورة العقد الحالي ليس على حساب القرض المحض كما هو الحال في السفتجة.
وإذا تم الصرف مع اتحاد العملة والسفتجة فلا إشكال في الجواز وفق أقوال العلماء في حل السفتجة، وعليه تقرير مجمع الفقه الإسلامي حيث نص بأن:” الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعا، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة: وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر، وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ؛ جرياً على تضمين الأجير المشترك.”[15]
إلا أنه يبقى تحرير النظر في اجتماع الصرف والسفتجة (أو الحوالة) عند عقد التحويل المصرفي، وإن للعلماء المعاصرين في جواز هذه المعاملة تصريحات متباينة، فالأرجح منها – والله أعلم – عقد الصرف أولا على أساس التقابض الناجز بين الطرفين، ثم يليه عقد الحوالة وهذا هو المخرج الأسلم والأبرأ للذمة، ولا حرج أن يكون القبض قبضا حكميا ولكن بشرط ضبط تاريخ العقد المبين لجميع معلومات التحويل.
[1] ينظر كتاب التعريفات لعلي الجرجاني. ص:120
[2] تهذيب الأسماء واللغات. للنووي 3/149
[3] التاج والإكليل لمختصر خليل 6/532
[4] المعجم الوسيط ص:449
[5] للمزيد ينظر كتاب السفتجة مفتاح من مفاتيح فهم الربا في الإسلام
[6] صحيح مسلم 3/1224
[7] التاج والإكليل لمختصر خليل. 6/532
[8] المغني لابن قدامة. 4/242
[9] السفتجة مفتاح من مفاتيح فهم الربا في الإسلام
[10] المغني لابن قدامة. 4/240
[11] موطأ الإمام مالك. 2/392
[12] ينظر المغني لابن قدامة. 4/240.
[13] المصدر السابق.
[14] مجموع الفتاوى29/ 531
[15] مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة. العدد التاسع بعنوان” الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة . ص: 256