الصداقة في العصر الرقمي: يبدو أن الحياة المعاصرة تشهد تفككا لكافة علائق الإنسان، وإعادة تشكلها من جديد على أسس مغايرة، فبات إيقاع الحياة سريعا وسطحيا، وتحتل الرقمية فيه مكانا بارزا في صياغته، فشهدت الصداقة كقيمة وعلاقة إنسانية تراجعا كبيرا وتغيرا في العقود الأخيرة، فأضحت الصداقة تتشكل وتنتهي على صفحات الوسائط الرقمية، وتقتبس من طبيعة الرقمية وإمكاناتها.

قديما حدد الفيلسوف أرسطو ثلاثة غايات للصداقة، هي: المنفعة والمتعة والفضيلة، واستحوذ التقسيم الأرسطي على مفهوم الصداقة لقرون طويلة تأسست فيها الصداقات على الاحتكاك المباشر، وكان الزمن عاملا محوريا لانتقالها من علاقة عابرة لتتحول لصداقة، لذا كانت الصداقات محدودة العدد، وتتسم بالتآز والتعاون والتفاعل المتواصل، لكن مع الحداثة ثم الرقمية أصبح للصداقة فلسفة مختلفة وطرائق أخرى للتشكل.

تراجع الصداقة في العصر الرقمي

الواقع أن الصداقات القوية العميقة تؤثر في تشكيل الذات، فتعد ساحة للتفاعل الأخلاقي والتأثر المتبادل، ومع الرقمية بدأنا نشهد تطورا واتساعا في الصداقات الضحلة السطحية على صفحات التواصل الاجتماعي، وتراجعا للصداقات العميقة، فيكفي أن الصداقة في العصر الرقمي تجرى عبر إرسال طلب بالصداقة وقبول الطرف الآخر لها، وبات أقصى ما يرجوه الصديق الرقمي هو أن ينال متابعة صديقه الرقمي وإعجابه، وإذا لم يحظ بذلك، فإنه لا يتردد في حظره.

أنواع الصداقة في العصر الرقمي

أنواع الصداقة في العصر الرقمي، تتألف من ثلاثة أنواع هي:

  • الصداقات في العالم الرقمي،
  • الصداقات خارج الرقمية،
  • الصداقات المختلطة.

وتتسم الحياة المعاصرة بحركة التنقل السريع سواء للعمل أو الدراسة، ومع توافر إمكانات التواصل والتفاعل أتاح العالم الافتراضي إمكانات كبيرة للصداقة، ورغم ذلك فإن العالم يشهد تراجعا في الصداقة، وميلا إلى العزلة، وإيثارا للتواصل عبر الوسيط الرقمي أكثر من التفاعل المباشر .

تظهر دراسات استقصائية في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية، أن هناك ركودا وتراجعا في الصداقة، فقد انخفض عدد الأصدقاء المقربيين للشخص انخفاضا حادا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكان الرجال هم الأكثر تأثرا في هذا الانخفاض، كما ارتفعت نسبة الأشخاص الذين ليس لهم صديق مقرب خمس مرات، فقد كانت نسبتهم  3% عام 1995، وباتت 15% عام 2021م، وهو ما يعني تزايد العزلة الاجتماعية ومضارها النفسية والصحية.

تكوين الصداقات الوثيقة

أظهرت دراسة مسحية أمريكية عام 2021م، أن هذه الفترة هي الأقل من أي وقت مضى في تكوين الصداقات الوثيقة، وأن أكثر من نصف الأمريكيين لديهم ثلاث صداقات وثيقة أو أقل، وأن الحديث مع الأصداقاء بات أقل، وكذلك الاعتماد عليهم أقل، رغم أن الصداقة الجيدة من عوامل تحقيق الرفاهة النفسية.

والرفاهة النفسية مفهوم مهم للغاية، فهو يعبر عن مؤشرات إيجابية من بينها الرضا عن الحياة، وإيجاد معنى للحياة، ووهو ما يدفع الشخص نحو تجارب اجتماعية وحياتية ناجحة، وفقا لما تؤكده نظرية “التوسع والبناء“[1] والتي تنص أنه عندما يواجه الأفراد مشاعر إيجابية، تتسع ذخيرتهم من الأفكار والأفعال، ويؤدي ذلك موجة تصاعدية من المشاعر الإيجابية الجديدة والأعمق، وهذا بدوره يؤدي إلى بناء الموارد، التي تدوم بمرور الوقت، وتكون بمثابة درع وقائي ضد الشدائد والأزمات.

أضف إلى ذلك أن المشاعر مُعدية، فالسعادة تنتقل من الصديق إلى مجتمع الأصدقاء، ووجود أصدقاء إيجابيون ومتفائلون فإنهم ينقلون تلك المشاعر والروح الإيجابية إلى أصدقائهم، وتلك الحالة الإيجابية تقاوم الاكتئاب والسلبية، لذا ففرص سعادة الفرد تزداد عندما يرتبط بشخص سعيد.

الصداقة فى العصر الرقمي

الصداقة الإلكترونية ومشاعر العزلة

وفي دراسة أجريت على مجموعة من طلاب المدارس الثانوية في (36) دولة، وجدت أن مشاعر العزلة زادت بين هؤلاء الطلاب، وكانت الهواتف الذكية وراء تلك المشاعر الانعزالية بين الشباب.

والحقيقة أن الرقمية قد تكون مسؤولة عن حالة التراجع في الصداقة، وتزايد مشاعر الوحدة والانعزال، لكن الأخطر هو أن تراجع الصداقة قد يعبر عن رؤية للتعامل مع العالم المادي الخارجي، ورغبة عارمة في الانغماس في العالم الافتراضي، وإعادة موضعة الذات هناك بكل يحمله التشكل الجديد من خصوصية وسرعة في كسب الأصدقاء وفقدهم، وعلاقات سطحية عابرة لا تعرف العمق،، وتكتفي فيه الصداقة بالحصول على شارة الاعجاب دون الانتقال إلى التضامن والمساندة الحقيقية.

وإذا كانت الرقمية قد جلبت السهولة والسرعة في تكوين الصداقات، إلا أن جلبت أيضا السطحية، فعلاقات الصداقة في العصر الرقمي سطحية، وتتسم بالفردية، وباتت الصداقة وسيلة لتحصيل الإعجاب، وليست قيمة في حد ذاتها، وهو ما يعني أنها خضعت لمنطق التسليع، أي أصبحت سلعة يتم  التمسك بها مادامت ذات نفع وعائد.

ومن ناحية أخرى فالرقمية أصابت الغالبية بالنجرسية والاعجاب بالذات، وأصبحت متعة الشخص أن يلتقط صورة لنفسه “سيلفي” وينشرها على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة من النادر أن ترى فيها مجتمع الأصدقاء، الذين كانوا حاضرين بكثافة في الصورة في الماضي.

الصداقة ضرورة

تؤكد الأبحاث الطبية ودراسات الصحة النفسية والعقلية، أن الصداقة عنصر مهم في حماية صحتنا الجسدية والعقلية، وأن الأصدقاء الجيدون يساهمون في إدارة مشاكل الحياة بطريقة أفضل، وفي صياغة معنى للحياة، وتخفيض الضغوط النفسية، ومنح الشخص إحساسا بالذات والدعم النفسي وقت الأزمات، ويساهمون في تعايش الشخص مع صدمات الحياة، ويخففون من حدتها، وأن الصداقة تقاوم أمراض الاكتئاب، خاصة في مرحلة المراهقة، وأن المراهقين ذو الصداقات الجيدة، هم الأفضل في التفاعل الاجتماعي، وتظهر دراسات أن الأشخاص الذين ليس لهم أصدقاء مقربون، هم الأقل رضا عن حياتهم؛ بل يتعرضون لمشاكل صحية، مما يؤثر على حياتهم.

خلصت دراسة أجريت عام 2023م، بعد بمراجعة (38) دراسات أجريت من العام 2000 حتى العام 2019، على أكثر من (308) ألف شخص، أن صداقات البالغين، وخاصة الجيدة، التي توفر الدعم الاجتماعي والنفسي، يمكن أن تحمي من مشاكل الصحة العقلية، مثل: الاكتئاب والقلق، وتستمر هذه الفوائد طوال فترة الحياة وأن الأشخاص الذين ليس لديهم أصدقاء، أو صداقات سيئة هم أكثر عرضة للوفاة، وهذا أخطر على الصحة من آثار تدخين 20 سيجارة يوميًا، وفي بريطانيا أجريت دراسة على (480) ألف شخص، وخلصت أن مشاعر العزلة والوحدة والافتقار إلى صداقات جيدة يزيد من نسبة الاصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية.

إن فهم الطبيعة البشرية، وفهم طبيعة الوسيط الذي تتحرك فيه الغالبية العظمى من الصداقات في العصر الرقمي، يؤدي إلى تخفيض سقف المأمول من الصداقة، من حيث عمقها، وحضورها في حياة الإنسان المعاصر.

وقد كتب أديب العربية “مصطفى صادق الرافعي” عن نماذج من الأصدقاء لا يريدهم، يقول الرافعي: “لا أريد بالصديق ذلك القرين الذي يصحبك كما يصحبك الشيطان، لا خير لك إلا في معاداته ومخالفته، ولا ذلك الرفيق الذي يتصنع لك ويماسحك متى كان فيك طعم العسل؛ لأنَّ فيه روح ذبابة، ولا ذلك الحبيب الذي يكون لك في همِّ الحب كأنّه وطن جديد، وقد نُفيت نفيَ المبعدين، ولا ذلك الصاحب الذي يكون لك كجِلدة الوجه تحمرُّ وتصفرّ، لأنّ الصحة والمرض يتعاقبان عليها، فكل أولئك الأصدقاء لا تراهم أبداً إلا على أطراف مصائبك، كأنهم هناك حدود تُعرف بها من أين تبتدئ المصيبة لا من أين تبتدئ الصداقة”.

ومن ينظر إلى تلك النماذج يجد أنها هي التي تغص بها الحياة الرقمية في العالم الافتراضي.