وردت لفظة “الصراط” في القرآن الكريم في ثمانية وثلاثين موضعا، كما وردت مُشتقاتها (صراطا، صراطك، صراطي) في سبعة مواضع أخرى. وفي أغلب هذه المواضع يرتبط لفظ “الصراط المستقيم” بالهداية كما في آيتي سورة الفاتحة، وكما في قوله تعالى: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} (البقرة: 142)، وقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101)، وقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين}. (الأنعام: 161)
كما ترتبط لفظة “الصِّراط” بكلٍّ من العبادة وقيمة العدالة على وجه الخصوص. فمن الآيات الدَّالة على الأمر الأول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(آل عمران: 51)، وقوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }.(يس: 61)
ومن الآيات الدالة على ارتباط الصراط المستقيم بقيمة العدالة قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 76)، وقوله: {إذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ}.(ص: 22)
و روي عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: “ضَرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبي الصِّراط سوران فيهما أبوابٌ مُفتَّحة وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاة، وعلى باب الصِّراط داع يقول: أيها الناس هلم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه”.(الترغيب والترهيب: 3/243)
فالصراطُ هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط هو واعظ الله في قلب كل مؤمن. ولعله هو الواعظ ذاته الذي سماه المولى عز وجل “برهانا” في قصة يوسف عليه السلام حين قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. (يوسف: 24) وهو الصراط ذاته الذي تحدثت عنه سورة الفاتحة بعد الإقرار بإفراد الله بالعبادة والاستعانة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.(الفاتحة: 6-7)
وفي الأحوال كلها؛ فإنَّ مما يُؤسف له في عصرنا هذا أنَّ الوازع الدِّيني قد ضعف في نفس المسلم؛ لأنَّ نور الإسلام قد انكفأ في قلبه وانطفأ في ضميره، فلم يعد إسلامه إسلام الصدر الأول، الذي فتح الدنيا في عهده وأضوى العالم إلى كنفه، وإنّما أصبح خليطا عجيبا من العقيدة السالفة، والصوفية الزائفة، والأساطير الموروثة والتقاليد الدخيلة، بحيث يوهمُ معتقديه أنَّ الإسلام ليس من شأنه الدُّنيا، وأنَّ المسلم ليس من همِّه المادَّة، وأنَّ ما هم عليه من رتق العقيدة وظلام الفكر وخدر الشعور، إنَّما هو روح الدِّين ورضا الله وطريقُ الجنَّة! ثم لا يعدمون أن يجدوا مصداقا لما يتوهَّمون، في بعض ما يسْمعون أو يقرؤون من الأحاديث الموضوعة والأخبار المصْنوعة والآراء الملفَّقة.
ومن ثم؛ فإننا في أمسِّ حاجة اليوم إلى تحرير العقل من الإقتداء العاجز والمتابعة الـمُسلِّمة، وتطهير السُنة من الأحاديث المكذوبةِ والأقوال المشوبةِ، وتطوير الفقهِ في حدود ما أنزل الله وبلغ الرسولُ، ليطابقَ مقتضيات العصْر ويجابهَ مشكلات الحضارة، ثم عرض هذا الإسلام الصادق الصافي على الناس في معرض واضح ومظهر جاذب ومنهج قويم.
على أنّ تحقق ذلك الأمل يستلزم لا محالة المزج بين تكوين الاعتقاد السليم من جهة، وتكوين الثقافة الدينية الواسعة من جهة أخرى. خاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أنَّ غرس التديُن – الذي هو أساسُ القيم – لا يكون إلا عن طريق إعمال النظر في الذات الإنسانية أولا؛ وذلك من خلال البحث والتأمُّل؛ مصداقا لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}.(الطارق: 5) وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.(الذاريات:21) أو عن طريق تأمُّل كتاب الله المكنون (الكون) ثانيا؛ مصداقا لقوله تعالى: {فِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين}.(الذاريات: 20)
إن الإسلام كدين يعبِّر في جوهره عن الفطرة الإلهية الموجودة لدى جميع الخلق.
وهذا المعنى يشدِّد القرآن الكريم على تأكيده في أكثر من موضع؛ كقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فهو ليس فلسفة؛ وإنما هو عبارة عن نهج من الحياة حسب قوانين الطبيعة التي سنَّها الله لخلقه، وما غايته الأسمى سوى التوفيق التام بين الوجهتين: الروحية والمادية في الحياة الإنسانية.